أهالي الأحساء ينعون خسارتهم «سوق القيصرية» التاريخي الذي أزيل بعد تعرضه لحريق مدمر 2001

TT

لم تكن الأيام العشرة الماضية أياما عادية لأبناء الأحساء، عندما شرعت بلدية المدينة في إزالة سوق القيصرية، السوق الشعبي الذي يحمل ذاكرة الأحساء، والذي تعرض لحريق هائل في 18 اكتوبر (تشرين الاول)2001 ، تسبب في شلّ السوق عن حركته التجارية. وإذا كان بعض أبناء الأحساء خاصة تجار السوق قد عبروا عن فرحتهم لإزالة مبنى السوق المتداعي لإعادة بنائه مرة أخرى، دلالة على أن شيئا سيتغير، فإن الأيام نفسها كانت محملة بالآهات والحسرة على إزالته، وقد أحبّ المبدعون أن يعبروا عن حزنهم ويقدموا رثاءهم لفقدها. المهندس المعماري الدكتور مشاري النعيم قال «آه كم هو رائع هذا المكان، سوق القيصرية يشيع في المكان المحيط به حيوية فريدة في نوعها لا نشعر بها إلا في وسط الهفوف، تذكرنا بالمدن العربية القديمة وبتاريخ عريق وقديم مع السوق الذي تشكلت فيه القصبات والأسواق المسقوفة التي طالما ميزت المدينة العربية، تكوين بشري ولوني وصوتي بعبق ورائحة يمثلها التاريخ ومحلات العطارة التي تحتل ركنا مهما من السوق».

ويضيف «أن سوق القيصرية أعطى للأحساء مكانة اقتصادية مهمة ساعد في ذلك فترة الاستقرار السياسي في القرن التاسع عشر وهي الفترة التي حكم فيها الإمام فيصل بن تركي الأحساء التي اعتبرت فترة انتعاش اقتصادي وعمراني، وهذا ما يؤكده قول لويس بيلي الذي زار الأحساء العام 1865، كما شهدت فترة استعادة الملك عبد العزيز للاحساء العام 1913 حركة تجارية شجعت تجار المنطقة على إقامة سوق تترجم فترة الانتعاش هذه، وأضيف هذا السوق الجديد لسوق القيصرية القديم حسب ما يذكره الرحالة «فيدال 1862» من أن وجود القيصرية ساهم في البقاء على الإنعاش الاقتصادي خلال الحرب العالمية الأولى.

ويصف مشاري النعيم حركة القيصرية فيقول «ان القيصرية تتمتع بحركة دؤوبة شدت أنظار الرحالة، وهي وجود الصناع والصفّارين والحدّادين والنجّارين، هذا المزيج المتجانس من الحرف اليدوية التي اكتظت بها أزقة الهفوف، ومطارقهم التي تضرب منذ بزوغ الفجر حتى غروب الشمس أوجدت موسيقى عذبة تلذذت بها عيون الرحالة قبل آذانهم».

وحول رأيه عن إزالة القيصرية بكاملها، قال النعيم «كان ينبغي أن نتيح للعمارة أن تتطور خاصة أن القيصرية تقع في وسط مدينة الهفوف القديمة التي تعاني الكثير من الهدم واندثار العمارة التقليدية المهمة، ربما ليس في هذا المشروع على وجه التحديد ولكنه مطلب ضروري لا بد أن نعطيه المساحة الكافية من تفكيرنا».

القيصرية لم تكن مجرد سوق تجاري، بل كانت مكانا للنزهة لوجود الحرفيين الذين في سحنات وجوههم تكمن هوية المكان، فهو مكان حميم وأليف يرتاده أبناء الأحساء كي يتذكروا زمن أجدادهم وآبائهم، يغسلون أرواحهم المتعبة من وطأة النهار برائحة الطين، ومما يزيد الألفة والمحبة لهذا السوق وجود نساء عجائز يعرضن بضائعهن أمام السوق.

الشاعر إبراهيم الحسين يتأسى على ذلك فيقول في نص طويل عن القيصرية «نهرب في عذاب الإسكافيين، والحدّادين، وأدوية الطب الشعبي، في الألحفة، في انتظار العجائز أمام الأروقة; يبعدن بأهدابهن دَأَبَ الوقتِ على إرهاقهن بالتذكارات، يعرضن الطواقي لتنصرف إليها العيون بدلا من ندمهن المغطّى». ويصف الحسين إطفاء الحريق وتهاوي الأسقف الذي تعرضت له القيصرية في مقطع آخر من النص «يطاردنا فجورُ عربات الإطفاء، وإثمُ الكمّامات، بلاهةُ صهاريج الماء.. يطاردنا هويُّ الأسقف الجذعية، دخولُ نور الشمس إلى أماكن ظلّت مستورةً لقرونٍ لتنكشفَ الآن مثل عورة.. يطاردنا ذهولُ الواقفين عن كزِّ أسنان التاريخ، عن تضوّره خلفهم. كلُّ هذا استسلم لدخانٍ يركض بغنيمته عاليا، لا نعلمُ إلى أين». أما الشاعر جاسم الصحيح فقد وصف خسارة القيصرية بقصيدة طويلة، هنا جزء منها «والتاريخ المعطوب.. تساقط من أعلى صهوته فوق متون الجدرانْ.. كيف تعذّر أن يحرسك التاريخُ.. وأن تحميكِ الأعمدة المنصوبة حولك كالعِبدانْ .. يا كعبة ذاكرة الأحساء. يعذبني أن أحفر قبراً لك في مرثاتي وأهيل عليكِ الأحزانْ.. ويعذبني أكثر أن تركض نارُ الحسرة في كل زقاقٍ أحسائيٍّ والآهات تطير على هيئة غربانْ».