الأمير سلطان بن سلمان يسلم جائزته السنوية في الإبداع العلمي في محافظة الغاط

خالد السديري.. مخطط سياسي وراو واقعي لتاريخ بلاده

TT

تم مساء أمس في محافظة صغيرة تبعد عن العاصمة الرياض بحوالي 200 كيلومتر، تسليم جائزة سنوية وذائعة الصيت في أرجاء السعودية لما عرف عنها من مصداقية وواقعية تسمى جائزة «خالد السديري للتفوق العلمي»، التي تقام سنويا في محافظة الغاط، حيث رعى الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز الأمين العام للهيئة العليا للسياحة، أمس حفل تكريم الطلاب والطالبات والمعلمين والمعلمات الفائزين بالجائزة هذا العام. وأكد الأمير سلطان بن سلمان في كلمته، أن الجائزة عمل خير يشحذ همم أبناء الوطن ليكملوا مشوار البناء والعطاء لوطنهم، ويحققوا نجاحات تخدم أمتهم وبلادهم. مشيرا إلى تلك الرعاية المخلصة في تكريم الطلاب الفائزين جائزة الأمير خالد بن أحمد السديري، التي حملت اسم رجل بذل الغالي في خدمة دينه وبلده.

واستذكر في كلمته مناقب الراحل وسيرته التي اتسمت بالعلم والعمل، مقدما شكره للقائمين على الجائزة من أبناء الأمير خالد السديري، مؤسس الجائزة، على عملهم المتواصل في خدمة أهداف الجائزة.

من جانبه، قال أمين عام الجائزة، المدير العام للتربية والتعليم بمنطقة الرياض، الدكتور عبد الله بن عبد العزيز المعيلي، في كلمته، إن الجائزة تمثل رافدا للمكانة التي يحظى بها العلم والعلماء في السعودية، مفيدا بأنها حافز للعمل الإيجابي الطموح.

وأوضح المعيلي أن الجائزة قامت على أسس سليمة وقواعد واضحة يتم الترشيح لها وفق معايير محددة أسهمت في تحقيق العدالة بين المتنافسين وبث روح الحماسة، لافتا إلى تزايد عدد المتفوقين عاما بعد آخر. وشهد الحفل حضورا كبيرا من أبرزهم فهد بن خالد السديري، وسعد الناصر السديري، وتركي بن خالد السديري، ومحافظ الغاط، عبد الله بن ناصر السديري، وعدد من أولياء الأمور.

وحضر الحفل أمس الدكتور عبد الرحمن الشبيلي، الذي قال عنه ذات مرة إن «خالد السديري صورة واضحة المعالم، متكاملة الأبعاد، عن مواهبه ومعارفه وشخصيته، وهي صورة لا تبرح الذاكرة مع ذلك الشريط الوثيقة، الذي تتيح ذكرى جائزته اليوم فرصة الكشف عن أبرز مضامينه، بعد أن ظل الشريط حبيس مكتبتي الخاصة نحو ثلاثين عاماً، منذ أكثر من ثلاثين عاما من الآن».

* راو واقعي لتاريخ بلاده

* ويشير الشبيلي إليه بقوله: عرف عن خالد السديري أنه مصدر في رواية تاريخ العلاقة الأُسرية والسياسية بين العائلة السعودية المالكة وأسرته، تلك العلاقة التي تعود بدايتها إلى عهد الإمام تركي بن عبد الله، مؤسس الدولة السعودية الثانية، وابنه الإمام فيصل بن تركي، حينما حمل جد عائلته أحمد السديري (الأول) لواء الجيش السعودي، منطلقاً من الأحساء إلى أعماق الربع الخالي نحو البريمي ورأس الخيمة، ثم خلفه ـ بعد كبره ـ ابنه تركي، الذي واصل تثبيت الحكم السعودي في ساحل عمان ثم بقية البلاد.

لذلك يبين الشبيلي حوله: حلّق صاحب هذه الجائزة في أجواء التاريخ ليكشف عن راوية يقرأ في الأحداث والوقائع، ويستنبط منها الأسباب والنتائج، وكأنما هو قد درس فلسفة التاريخ، أو قرأ مقدمة ابن خلدون، مع حسّ توثيقي يؤكد أنه كان يحفظ ويدوّن ويرصد، لكن المهمات تلاحقه والقدر يعاجله، قبل أن يفرغ لنشر ذكرياته المخطوطة التي احترقت مع وثائق أخرى في حادث مؤسف تعرضت له خيامه في نجران.

السديري ذهب أبعد من المحلية في ذاكرته التاريخية إلى العلاقات الدولية، حيث أوضح الشبيلي أنه استذكر مشاركته المبكرة في الأزمة الأولى مع اليمن، مطلع الخمسينات الهجرية، حيث انطلق مع سرية من الرياض بقيادة الأمير محمد بن عبد العزيز، في الحملة الثالثة التي اتجهت صوب صنعاء عن طريق نجران، وهي الحملات التي انتهت سلمياً باتفاقية الطائف كما هو معروف.

كان ذلك قبل أن يصدر قرار إبقائه في أبها معاوناً لأخيه تركي 1934، ثم أميراً لمنطقة جازان 1940، التي بقي فيها نحو ست سنوات، شارك خلالها مع أخيه الأمير تركي، أمير أبها آنذاك، في قيادة قوات لإخماد فتنة في أحد جبال الجنوب 1942، في أول مهمة عسكرية تولى مهامها، وهو يعتز ببرقية لديه يثني فيها الملك عبد العزيز على جهوده فيها.

* فرصتان من نوع مختلف

* ويواصل الشبيلي، أنه قبيل منتصف الستينات الهجرية، أتيحت له فرصتان من نوع مختلف، أثرتا تجربته الإدارية والسياسية، وأضافتا بُعداً جديداً إلى خبراته، كانت الأولى نقله قبيل نهاية الحرب العالمية الثانية، أميراً على منطقة الظهران في فترة تأسيس قاعدتها العسكرية المعروفة، ومع أن الفترة التي قضاها هناك كانت قصيرة، انشغل خلالها بمهامه الأساسية في التنسيق بين الحكومة وأرامكو، إلا أنه عمل جاهداً على إصدار أول نظام للتأمينات خاص بعمال أرامكو، لافتا إلى أن من إنجازاته على صعيد المنطقة تخطيط مدينة الخبر، حيث يبقى شارع خالد في الخبر شاهداً شاخصاً على ذلك.

وأضاف الشبيلي: كانت الفرصة الثانية، تعيينه عام 1945 عضواً مجلس مستشاري الملك عبد العزيز، المجلس الذي أدخله مباشرة في مدرسة الشعبة السياسية «المطبخ السياسي»، الذي كانت تنطلق منه توجيهات المؤسس، بعد أن يشارك الملك شخصياً في مناقشته مع مستشاريه، مشددا في ذات الوقت على أن تجربة خالد السديري في تلك الفترة قد أكملت الركن الثالث في بناء شخصيته القيادية والإدارية والعسكرية والسياسية، وأهّلته وقد بلغ الثلاثين، كي يتبوّأ مركزاً إدارياً في غاية الأهمية: إمارة منطقة تبوك، وهي البقعة العزيزة إلى نفسه والتي سعى إلى تخطيطها، ودعا إلى إنشاء قاعدة عسكرية فيها بما يتناسب وأهميتها السياسية والعسكرية، وقد أمضى فيها نحواً من ثماني سنوات حتى استتب توحيد البلاد واتجهت الدولة نحو مزيد من تنظيم مؤسساتها الدستورية والإدارية.

في عام 1955 عين صحاب الجائزة خالد السديري وزيراً للزراعة خلفاً لأخيه عبد العزيـز، الذي كان قد تولاها لأشهر قليلـة (قبيل وفاته)، بعد الأمير سلطان بن عبد العزيز، أول وزير للزراعة، فقضي فيها خالد السديري سبع سنوات، أخذ فيها من التجارب قدر ما أعطى، واكتسب فيها من التأهيل والمعارف ما جعله يركز في أعماله اللاحقة على توازن عناصر الإنماء والأمن والتعليم والأعمار.

الشبيلي يزيد في حواره قبل 30 عاما، أن خالد السديري قد أمضى العقدين الأخيرين من حياته مشرفاً على منطقة نجران، قصد من اختياره لها الإفادة من خبرته العسكرية والجغرافية ومن معرفته العميقة بالقبائل، في فترة عصيبة من فترات الشد والجذب مع إخواننا في اليمن ومصر، بدءاً من ثورة عام 1962، ومروراً بحوادث الوديعة مع اليمن الجنوبي، وانتهاء بعودة العلاقات الأخوية مع اليمن، كان خلالها يعمل بالعدل والإنصاف في العلاقة، ومداراة حق الجيرة وصلات القربى، وضمان الأمن والأمان على الحدود، مشيرا إلى أنه بالرغم من انشغاله بالأحداث ترك بصمات تطويرية بالغة الأهمية على الحياة المعيشية في منطقة نجران، كان من بينها البدء في إنشاء السد وتطوير الزراعة وتخطيط مدينتي نجران وشرورة لتكونا حاضرتين سكنيتين لتوطيـن من جوارهما من أبناء البادية.

* السديري: الولادة.. التعليم.. الشعر.. الوفاة

* كان خالد السديري شاعرا في سياقي العربي الفصيح والنبطي العامي، واتسم أداؤه الشعري بالروعة والجمال في النظم، من ضمنه ديوانه «قصائد من الوجدان»، المطبوع عام 1987، بل كان يتوقع أنه لو لم يدخل في السياسية والحروب، أن يكون أديباً متذوقا،ً أو ناقداً، أو مؤرخاً ملماً بحوادث الجزيرة وأحوالها وأيام أهلها، خبيراً في صحرائها من قريات الملح إلى بلاد الأخدود، ومن جبل الظهران إلى جبل الريث. ولفت الشبيلي إلى أن ظهور خالد السديري إلى هذه الدنيا كان في ذروة انشغال وطنه بحملة التأسيس والتوحيد، وفي فترة عصيبة من توطيد الاستقرار هنا وهناك، وفي حقبة كانت الغزوات هي العلامات الأوضح لتأريخ الأحداث والمواليد والوفيات، مفيدا أنه ولد على الأرجح في سنة جراب 1915، في مدينة الأفلاج، حيث كان والده أميراً على المنطقة للمرة الثانية قبل تقاعده، ثم انتقل أبوه إلى الغاط ليتفرغ لتربية أبنائه، ويمكّنهم من الالتحاق بكتّاب البلدة.

وحول تعليمه يقول الشبيلي، إنه تلقى الدروس من معلّمين خاصين حضروا لتعليمهم، لكن خالداً وجد بانتقاله إلى الرياض في ما بعد، فرصة لحضور حلَقات العلوم الشرعية والعربية والاجتماعية، عند الشيخ محمد بن إبراهيم وغيره من المشايخ، إلاّ أنه لم يستثمر عرض الملك عبد العزيز لابتعاثه وشقيقه محمد إلى مصر للدراسة عام 1930، كما لم يحظ بما حظي به قلّة من ميسوري الحال من حضور مدارس الحجاز أو العراق أو الهند، إذ كانت الأحداث تتلاحق في صغره، فكوّن نفسه بنفسه، وثابر ذاتياً في الرياض ثم في الطائف على قراءة عيون كتب الأدب والتراث، وحفظ النصوص. وكان ترتيب صاحب الجائزة الرابع بين إخوته الثمانية المعروفين، محمد (الأول)، وتركي، وعبد العزيز، ثم محمد (الثاني)، وعبد الرحمن، ومساعد، وسليمان، وبندر، وأن له خمس عشرة أختاً، وتسعة من الأبناء، أكبرهم الأمير فهد رئيس هذه الجائزة، وستاً من البنات.

ويصف الشبيلي وفاته بقوله: وقف قلب خالد السديري عن النبض في مدينة نيويورك، في مطلع هذا الشهر الهجري قبل سبعة وعشرين عاما الموافق للأول من ديسمبر (كانون الأول) 1978، ثم عاد إلى تراب وطنه جوالا، ليكتب صفحة بيضاء في تاريخها، ويرقد قرير الفؤاد بمن وبما خلّف، ولترتاح عينه التي لم تغمض يوماً وهي تحمي أطراف البلاد. رحل ورحلت معه سيرة نصف قرن من جهاد مع تضحيات، وإخلاص مع صدق، وجود مع صبر، ولعل هذا الحوار يتجسد عنواناً لكتاب مقبل يروي جانباً من سيرته.