سوق «اليُمنى» بجدة متحف مفتوح بنكهة الحلبة والحناء والخضروات العطرية

بائع يمني: زوار السوق يصوروننا كأننا نجوم تلفزيون.. وكل شيء هنا يحمل نكهة الجنوب

TT

يتميز سوق «اليمنى»، وهو من أقدم الأسواق الشعبية في مدينة جدة، برائحة الماضي وبساطة الحياة وتآلفها، حيث ان رؤية بعض المظلات الشمسية المهترئة على الرصيف الأيمن في حي الهنداوية الثاني «شارع الأمير فهد» متجها شمالا ومحاولا المرور بحارة السبيل، يعد أمراً طبيعياً، فطبيعة الحياة في هذا السوق تتطلب هذا التقارب، بل تجبرك على السير على مهل لأن الطريق الضيق مزدحم أمامك ليل نهار.

و«سوق اليمنى» الشعبي الذي له أكثر من أربعين سنة تقريبا قائم على هذا الرصيف. يقول سليمان علي، وهو رجل ستيني بسيط كان واقفا أمام طاولة خشبية قديمة بقدم مكسورة على الرصيف بعد أن فرشها بقطعة قماش من النايلون، يبيع فيها الموز اليمني الذي يتصف بصغر حجمه: «كل شيء من خضار وفواكه وحلبة وخمير (خبز جنوبي)، ورقائق من اللحوح (أكلة شعبية يمنية)، وأوان فخارية بمختلف الأحجام وأشياء متنوعة عتيقة وقديمة وبالية وشعبية تشترك في انها ذات طابع يمني وجنوبي».

والحركة في هذا السوق لا تفتر أبدا، كما يقول سليمان: «هي لا تتوقف بل تهدأ قرابة فترة الغداء وتعاود رحلة الركض والحركة في الفترة المسائية إلى ما يقارب منتصف الليل، ثم أردف يسأل: هل أنت من البلدية؟ إن كنت كذلك فلا تقطعي لقمة عيشنا فنحن مساكين ونأكل رزقنا من عرقنا»، وصمت لبرهة يتأمل الموز أمامه، ثم قال: «كثيرون يأتون إلى هنا يصوروننا وكأننا نجوم في التلفزيون، لكننا نعمل بشرف، فهذا البلد به خير كثير».

والمتجول في أرجاء السوق الضيق الذي يزدحم بالمارة من المشترين، إن كانوا رجالا مثل عبد الله عمر من المنطقة الجنوبية، وهو يعمل مدرسا للغة الإنجليزية، ويحضر إلى السوق بين فترة وأخرى ليشتري كما يقول: «الخمير واللحوح والحلبة التي تعودت على أكلها منذ الصغر عندما كانت والدتي يرحمها الله تقوم بصنعه والآن زوجتي رغم أنها من ذات المنطقة إلا أنها لا تتقن صنع هذه الأكلات، فآتي إلى هنا لشرائها». ويضيف: «هنا أناس طيبون تعودت على لقائهم منذ أن استقر بي الحال في مدينة جدة وأنا آتي إلى هنا من أقصى الشمال لكي أشتري هذه الأطعمة الشعبية لتعيدني إلى رائحة أمي يرحمها الله». ومن بين المارة نساء كبيرات في السن من سكان المنطقة يشترين بعض الأكلات الشعبية والخضار والبقوليات والفواكه، بالإضافة إلى إجراء بعض الأحاديث الودية التي يتبادلنها مع البائعات، فالمار لا يستغرب جلوس بعض النساء اليمنيات الجنوبيات وبعض الأفريقيات بجوار بعضهن بعضا يتحدثن بصوت عال فيما بينهن بعد أن حولتهن المجاورة في الافتراش على رصيف هذا الشارع، رغم أنه عتيق ومهلهل، إلى صديقات حميمات يحرسن أغراض بعضهن إذا ما نهضت إحداهن لشيء ما، وهن يفترشن على كرتون بال قطعة من قماش (الخيش القديم) ويعرضن عليه بعضا من البقوليات (الكراث والخس والجرجير والفجل) وبعضا من النعناع، إلى جانب بعض المتسولات الأفريقيات اللاتي يجبن السوق الشعبي بحثا عن ريال.

وفي سؤال لآمنة، إحدى البائعات، امرأة أربعينية، عن تجربتها تقول «أنا يمنية وأبيع الخمير واللحوح هنا»، وتابعت تحكي من دون تكلف «زوجي مريض ولا يعمل ولدي خمسة أبناء وعلي أن أعيلهم جميعا ليتعلموا»، وبفخر تقول «الحمد لله كلهم متفوقون في المدارس وسوف أفرح بهم وسيريحونني من عناء هذا الرصيف يوما ما». لكن سيدة ستينية بجوارها تبيع بعض البقوليات أوقفتها عن الكلام خوفا من المتابعة في حديثها مع الغرباء، فصمتت آمنة خاضعة لأمرها، وما هي إلا دقائق حتى حملت أغراضها مغادرة بعد وشوشة مع جارتها.

وفي جانب آخر من السوق الشعبي تجد محلات قديمة تبيع أواني الفخار على اختلاف أغراضها وأحجامها وفي ذلك يقول علي أحمد، بائع في أحد المحلات العتيقة «لدي المباخر والمقلى والمشربيات و(المحلا) لخبز اللحوح و(المغش) لطبخ الإدامات والمرق وكذلك المطحنة وآوان مختلفة يمكن استخدامها للطبخ الشعبي الجنوبي»، وماذا أيضا؟ يجيب: «لدي الحناء وأوراق نقش الحناء التي يمكن استخدامها معها وكذلك هذه البيوت الحجرية الصغيرة التي تشبه البيوت الشعبية الجنوبية».

وعن إقبال الناس على هذه الأغراض العتيقة والشعبية يقول «الحمد لله هناك إقبال كبير من البعض، خاصة ممن يحبون جمع مثل هذه الفخاريات لتزين منازلهم، والمشترون من مختلف المستويات وأعرف ذلك عندما يأتون هنا بسيارات فارهة من أجل شراء بعض الفخاريات».

لكن أكثر المشترين الذين يأتون إليه كما يقول «هن الطالبات والمعلمات اللاتي يحضرن لشراء هذه الفخاريات من أجل المدرسة بالإضافة إلى النساء العجائز الجنوبيات اللاتي يحضرن لشراء الحناء بكثرة». وعن السوق يقول: «هنا كل شيء جنوبي وشعبي ونحن لنا سنوات طويلة في هذا السوق حتى اننا نشعر بأننا أسرة واحدة نعرف بعضنا بعضا»، ما أشار إليه علي من علاقة حميمة تربط أبناء هذا السوق بعضهم ببعض كانت الابتسامة التي تلونت بها وجوههم دليلا على صدق كلامه ولم تفسدها تراكمات الزمن على وجوههم أو حرقة الشمس اللاهبة التي تصالحوا معها منذ زمن، لقاء لقمة العيش الشريف.