سـوق «واقـف» في القـطـيف.. لم يعـد واقـفـاً..!

من «الهاي تك» للبصل والجرجير ومن أسطوانات أم كلثوم الى «حضيري بو عزيز»

TT

في الزاوية الغربية للقطيف القديمة، وعلى بعد أمتار من سوق (الخميس) التاريخي المشهور، يتجمع منذ عشرات السنين نفر من الباعة من كبار السن والشباب على حد سواء، يبيعون ما تحمله أيديهم من أجهزة ومعدات وملابس وكتب واشرطة وقطع غيار، وكانت السمة الأبرز لهذه المبيعات انها في الغالب من المواد المستخدمة او المصنعة، أو المقلدة، ولأن البائعين كانوا يحملونها ويجولون بها بين المتسوقين فقد حمل السوق اسم (واقف) في اشارة الى أن أياً من التجار لا يملك محلاً مفتوحاً ولا يدفع أرضية لجهة ما.

هذا السوق قد تغير، فلم يعد سوق (واقف) واقفاً، فالبسطات تملأ أرجاءه، ولأنه لا أرجاء له ولا ساحة معروفة لديه، فالباعة ينتشرون على الارصفة وفي الأزقة وبين البيوت، أما المبيعات فلم تعد تلك المهملات في البيوت التي يعرضها الباعة بأبخس الأثمان، وليست قطع الخردة التي يشتريها المتسوقون للحصول على (قطع غيار) لأجهزتهم المنزلية، ولم يعد السوق ملاذاً لكل من يسعى للحصول على سجادة مغسولة، أو ستارة قديمة، أو جهاز تسجيل باعه صاحبه لاتقاء غلواء الزمن.

توقيت السوق هو الآخر لم يبق على حاله، فسوق (واقف) الذي عرف في بعض بلدان الخليج كالكويت والامارات بإقامته في نهار يوم الجمعة، أصبح في القطيف يقام في معظم أيام الاسبوع وإن كان يشهد حضوراً مكثفاً في يوم الجمعة.

* هاي تك..!

* المواد القديمة لا زالت تجد مكانها في السوق، ومعها أجهزة الجوال بأحدث المواصفات وآخر التقنيات، بل ان السوق كان يعرض أجهزة جوال الكاميرا قبل أن تجرؤ محلات الجوال على وضعه في واجهاتها، كما يبيع السوق اجهزة التلفزيون الكورية والصينية بأحجام كبيرة وشاشات ضخمة، واجهزة استريو الهاي فاي، واسطوانات الموسيقى والافلام والاناشيد الدينية، ومن طرائف هذا السوق، قيام بعض الشبان الذين يبيعون الاسطوانات المدمجة التي تحتوي على أفلام اجنبية بعمل مونتاج لهذه الأفلام تحتوي على الترجمة العربية للنسخ الاجنبية حيث يعيدون انتاج الشريط مع وضع (سكريبت) الترجمة.. لتقرأ في بداية فيلم (فهرنهايت 11 سبتمبر) ترجمة: حمود العلق، سوق واقف ـ القطيف.. أو تجد في مطلع فيلم (سيد الخواتم) ترجمة حسن شاكر، تسجيلات سوق واقف.. وتبدو عملية الترجمة وكأنها وضعت بشكل احترافي لا يقل عن اعمال ستديوهات التسجيل الكبرى.

* خواتم وعقيق

* وفي السوق يجلس عدد من كبار السن يبيعون خواتم تحمل احجاراً كريمة كالعقيق والزمرد والياقوت، ويحكي بائع مسن عن فصوص العقيق اليماني وفوائدها وفضلها وقيمتها المعنوية والمادية، ولا يكتفي بل يتبرع باختبار جودتها أمام مشترين مصدومين بأسعارها المرتفعة، في حين يقلب مسابح أخرى لا تقل قيمة عن خواتم العقيق.

يقول الحاج ابو علي، انني ابيع الخواتم منذ سنين، وأعرف الفصّ الحرّ الاصلي الذي ينتمي للأحجار الكريمة من اول نظرة، ولكن هناك من يخدعني من المشترين فهو يقلب الخاتم الأصلي ليضع مكانه خاتما نحاساً لا قيمة له.

ويضيف: لدي من الحجر اليماني والايراني ومن الفيروز والزمرد والمرجان وكل واحد من هذه الخواتم له صفات وأسعار مختلفة.

* أم كلثوم وحضيري بو عزيز

* وليس بعيداً عنه يجلس ثلاثة من (الذويقة الكلاسيكيين) الذين حفظوا للطرب القديم أصالته يبيعون اسطوانات واشرطة لأم كلثوم ومحمد زويد وحضيري بو عزيز وعيسى الاحسائي، وفرق اغان من خوزستان، وأشرطة موسيقى هندية.. ولا يرضى البائع بتجربة هذه الاشرطة القديمة التي يعلو بعضها التراب والغبار، فالمشتري يأخذها وكأنها تجربة حظ، وبجوار بائع الاشرطة ترتمي كراتين الكتب القديمة، وهي خليط من كتب الدعاية والمطبخ وكتب الشعر وتعليم اللغات في ستة ايام.

وزاوية الكتب من الزوايا الجميلة في هذا السوق لمن يجد لديه متسعاً من الوقت لتصفح الكتب القديمة، فمن بينها يمكن العثور على كتاب لأبي فراس الحمداني بعشرة ريالات، والقصائد الأولى لأحمد فؤاد نجم بسبعة ريالات، وروايات نجيب محفوظ الممزقة الغلاف (الربطة) بعشرين ريالاً، أما إذا خدمك الحظ فسيرتاح في يدك كتاب مترجم لرواية (الحرب والسلام) أو الأعمال الكاملة لـ (ديستوفسكي) التي لا تجدها في المكتبات، ويمكن أن تعثر على كتاب (الازهار الارجية) للشيخ القطيفي فرج العمران، أو (ساحل الذهب الاسود) لمؤرخ القطيف محمد سعيد المسلم، وفي كل اسبوع تجد نوعية مختلفة من الكتب، وهناك من يعمد الى شراء الصحف والمجلات القديمة كمجلة العربي الكويتية والنهضة ومجلة الفرقان والبحرين ويمكن أن تجد نسخاً قديمة من مجلة العروة الوثقى أو أعداد نادرة لبعض الصحف العربية تاهت من ادراج مقتنين عاشقين للأدب بعد أن طوتهم القبور وخلفوها لأبناء لا يعون قيمتها الحقيقية، بل ان أحدهم ذكر انه اشترى مخطوطة نادرة من هذا السوق بخمسة عشر ريالاً وكان بائعها فيها من الزاهدين بحيث أهداه كتاباً آخر (فوق البيعة).

وفي ارجاء السوق تجد باعة الفواكه والخضار بل حتى السمك والروبيان، والملابس الصيفية والشتوية على حد سواء، وفساتين البنات وأيضا ملابس الاطفال الداخلية.

* حراج..!

* سوق (واقف) يعتبر سوق حراج، ففيه يتم عرض البضائع بأسعار لتبدأ المساومات حولها لتصل للسعر الذي يرضي الطرفين، لكن ثمة ثقافة مختلفة تلف هذا السوق، فالمشتري يأتي وفي ذهنه أن كل بضاعة تباع هنا هي بطبيعة الحال (أرخص) قيمة من نظيرتها في المتاجر والمحلات وتبعاً لهذا التصور فإنه قد يفاجأ بأن ما يشتريه من هذا السوق لا يختلف من حيث السعر عن بضائع المتاجر الا بفارق بسيط لا يذكر، لكن يمكن لهذا السوق أن يوفر بضائع رخيصة لأنها لا تحمل ضماناً أو لا تعود لوكيل معروف أو لأنها مصنعة في بلدان لا توفر مقاييس عالية للجودة.

كذلك يوفر السوق ملاذاً للباحثين عن (قطع الغيار) حيث يجدون في الخردة المنتشرة هناك او في الاجهزة المستخدمة مكاناً ملائماً للحصول على غطاء أو دولاب أو محرك او محول كهربائي او عصا لمكنسة كهربائية او قطعة لغسالة او مجفف للشعر.

* سوالف.. أول..!

* ولعل اهم ما يميز السوق بعض الذكريات التي تفوح في ارجائه، فالعديد من الباعة كبار السن يجلسون على الأرض يرتشفون الشاي ويحكون قصصاً عن ذكريات او مغامرات او انطباعات قديمة، وبعضهم يتندر على وضع السوق، فأبناء جيلهم ينسحبون لطريق اللاعودة بينما يملأ المكان وجوه الشباب الباحثة عن فرص العمل والعيش الكريم.

عدد الشباب الذين يعملون في سوق واقف يزيد كل اسبوع، وفيهم مجموعة وجدت في هذا المكان متنفساً للبحث عن لقمة العيش في ظل انحسار فرص العمل أمامهم، يقول صالح، وهو شاب يبيع اسطوانات التسجيل المدمجة، انه يعمد إلى نسخ هذه الاشرطة التي تحتوي على اناشيد للأطفال ومسرحيات ونغمات للجوال ويبيعها في السوق ليوفر لنفسه (مهراً) يتزوج به. يضيف، أعرف أنكم ستقولون لماذا لا توفر لكم البلدية خدمات لهذا السوق.. أقول لك واكتب: أتمنى أن تبقى بعيدة عن هذا المكان، حتى لا تعقد اجراءاتها حياتنا..!.