العقال العربي.. مظهر للتطور وسلاح فعال في حل القضايا العالقة بين الخصوم

بدأت العلاقة معه بعد فقدان الأندلس

TT

محمد اليافعي زبون دائم لأحد المحال التجارية التي تبيع بعض الكماليات الرجالية، كان يتفاوض مع البائع لشراء عقال «وهو ما يوضع على الرأس بعد لبس الشماغ أو الغترة». ويقول محمد: «العقال يعتبر جزءا من اللباس الشعبي للرجل في السعودية ومنطقة الخليج بشكل عام، وبعض الدول العربية كالعراق والأردن وفلسطين وسورية، وهو يمثل بالنسبة لي، كما هو الحال لمعظم السعوديين، مكملا لزيّنا الذي اعتقد بأنه لا يكتمل إلا به».

وأرجعت بعض الروايات أن السبب الحقيقي في لبس العقال عند العرب، خاصة في بلاد الشام ومن ثم في الجزيرة العربية، انه عندما طرد العرب من الأندلس قبل أكثر من 500 عام، قام العرب المسلمون في الشام بعصب رؤوسهم بقطع من القماش الأسود، وذلك تعبيرا عن الحزن العميق لضياع الأندلس، وما أصاب المسلمين من قتل وطرد آنذاك. وتوارثت الأجيال تلك العصابة السوداء، وتحولت مع مرور الوقت إلى العقال بالشكل الذي هو عليه اليوم، وصار من مقومات اللباس العربي. وبالرغم من نظرة البعض بأن تكون كلمة «المعصب» هي التي تطلق على «العقال» المعروف الآن، هي الاقرب والانسب، فضلا عن ان الرأس «يعصب» ولا «يعقل»، مستدلين بما جاء في التاريخ ان اول من لفّ الرأس بالمعصب هم عرب الاندلس، إلا أنه أصبح من المتعارف عليه استخدام لفظ كلمة «عقال»، رغم انها تعني في اللغة «الحبل الذي توثق به احدى ساقي الجمل».

وعرف العرب قديما العديد من الفوائد للبس العقال، حيث كانوا يعصبون الرؤوس بخيوط مصنوعة من القطن لكل من يشعر بالصداع، الى ان اخذ العقال في زماننا الحاضر بعدا اخر، حيث أصبح مكملا للباس الشعبي في منطقة الخليج.

واليافعي عاد بقوله: «ربما أتخلى عن لبس العقال في بعض الاحيان عندما أكون برفقة بعض الزملاء في نزهة أو لممارسة الرياضة، إلا أني لا اتخيل نفسي بدون لبس العقال في المناسبات العامة وحتى الخاصة، الأمر الذي يشعرني بأنه أصبح جزءا من شخصيتي».

أما فرحان علي، وهو في الخمسين من عمره، ويعمل في صناعة العقال منذ عقدين في أحد المحال التجارية، يقول: «نعتمد في صناعتنا للعقال على الطريقة اليدوية التقليدية، وهناك أمور مشجعة تجبر الزبون على الشراء من محالنا، من بينها جودة الخيوط التي نستخدمها في صناعتنا، وعادة ما نقوم باستيراد هذه الخيوط من سورية وألمانيا، فيما تختلف درجات العقال من حيث الجودة واحيانا بما يتناسب مع الطبقة الاجتماعية، فهناك من يفضل أن يكون الخيط الداخل في الصناعة من القطن الطبيعي، فيما يفضله البعض الآخر أن يكون من الحرير الصناعي».

وعن صناعة العقال يكمل الخمسيني حديثه: «تمر صناعة العقال بمراحل عدة حتى يكون جاهزا، فما ان يصل الزبون الى المحل وبعد الاتفاق على السعر والخيوط والنقشات، حتى تبدأ مرحلة القياس في البدء، حيث يجري قياس محيط الرأس، وهي الاهم في جودة صناعة العقال». ويضيف: «بعد ذلك تبدأ العملية التالية في الصناعة وهي ما يعرف بــ (برم) الخيوط بماكينة خاصة مع التنجيد لسد الفراغات والفجوات بين الخيوط المكونة للعقال، ومن ثم يجري قفل العقال يدويا، ثم تحاك الرمانات بالابرة. والأدوات التي نستخدمها في عملية صناعة العقال، هي عبارة عن ماكينة الخياطة، وهي الآلة التي تبرم الخيوط، وقالب خشبي في شكل مخروطي يستخدم للتأكد من المقاسات، والمطرقة الخشبية التي تستخدم للدق على العقال».

وفي الوقت الذي تعتمد فيه صناعة العقال على الطرق اليدوية القديمة، حيث تعتبر خياطة العقال مهنة معروفة منذ زمن بعيد وتشتهر مدينة «حماة» السورية بهذه الصناعة، اذ تقع اشهر المحلات المتخصصة في صناعة العقال، كما تنافسها دمشق وحمص، بالاضافة الى حلب، إلا أن هناك عددا من المصانع الحديثة داخل السعودية وخارجها، التي تساهم بشكل كبير في صناعة هذا المنتج الذي تشهد تجارته رواجا منقطع النظير، خصوصا في ايام الاعياد والمناسبات، اذ يحرص الشباب وكبار السن على اقتنائه لوضعه على الرأس في مثل هذه المناسبات، ويتكون العقال من حشوة داخلية تميز العقال المصنّع محليا عن تلك الانواع المستوردة، وخيوط القطن البيضاء وتكون في الداخل، ثم الخيط الاسود الذي يحيط بالعقال خارجيا والجزء الخلفي يطلق عليه (العصابة)، التي يكون في نهايتها حبات الرمان، وتعرف ايضا بقفلة العقال بين طرفي الخيوط المبرومة.

عبد العزيز الغامدي، وهو موظف بأحد القطاعات الحكومية يقول: «بالرغم من طبيعة عملي التي تحتم عليّ لبس العقال بحكم تعاملي المباشر مع الجمهور، إلا أني أرى في لبسه شيئا من السمو والشموخ، حتى أصبحت لا أتمكن من التخلي عن لبسه، خصوصا أنه أصبح عاملا مهما في إبراز شخصية صاحبه ومرآة لوضعه الاجتماعي طبقا لمعايير الجودة والشكل المتميز».

فرحان علي، عاد للحديث بقوله: «سعر العقال يخضع الى معايير عدة فهو يعتمد على النوعية وكذلك الخيوط المستخدمة وطريقة وشكل النقشة وهي عناصر تحدد الثمن، وقد يصل سعر العقال الواحد في بعض الاحيان الى أكثر من 250 ريالا، وربما يكون السعر باهظا بعض الشيء، الا ان سعره يبقى فيه. فيما تتفاوت المدة التي يستغرقها إنجاز عقال واحد من ساعة ونصف الساعة إلى أكثر من ثلاث ساعات تقريبا». وفيما تعددت انواع العقل واخذت اسماء تجارية مثل الكريستال والملكي والمخمل والمرعز، الا ان تلك الانواع مجرد اسماء يطلقها اصحاب تلك المنتوجات لترويج بضاعتهم في الاسواق، كما يقول فرحان، الذي أضاف: «يفضل معظم الشباب السعودي لبس العقال صغير الحجم أو ما يعرف بـ (الحطة) والمتين، على عكس كبار السن الذين يفضلون لبس العقال كبير الحجم واللين، كما أن هناك نوعا من العقل يعرف بالخزام أو الشطفة، ويصنع من الصوف الخالص، ومنه العقال الأسود الذي يُغزل ويجدل من صوف الماعز ويسمى «المرعز»، بالإضافة لما يعرف بالعقال الاماراتي (المقلوب)، والقطري المسمى (أبو سيفون) او ما يعرف بــ (شاي ليبتون)، الذي يبدو رفيع الشكل، حيث كان يُنحل على شكل طولي يطوى بعضه على بعض لتتكون دائرة أصغر في شكل استدارة الرأس، وقد يتدلى منه خيطان طويلان خلف الرأس».

وللعقال جديلة من الصوف أو الحرير المقصب، ويتخذ ألوانا عدة منها الأبيض الذي يرتديه شيوخ المساجد في بعض دول الخليج، والزري الذي يُرتدى في المناسبات الوطنية والأفراح، والأسود الذي يرتديه عامة الناس، والوبر أو مرير الوبر ويصنع من وبر الجمال ولونه بني فاتح أو أبيض، وهو أغلظ من الأول بوجه الإجمال، ويُلف لفة واحدة على الرأس ولا يتدلى منه خيطان، ومنه المقصّب ولا يلبسه إلا الشيوخ والوجهاء على حطة الأغباني، ولونه بني فاتح أو أسود أو أبيض، لكنه مقصب بخيوط فضية أو ذهبية، فيما يسمى العقال في النقب بـ «المرير»، وكلمة مرير في اللغة تعني الحبل المشدود الفتل.

والعقال الذي تغير شكله أيضا أصبح يصنع من المخمل أو الصوف أو الحرير، حسب الرغبة وبالتفصيل، إلا أن العقال الحرير لا يجد اقبالا من الشباب بالقدر الذي يشهده العقال الصوف، وهناك من يشكك في شرعية ارتداء هذا النوع من العقل، لذلك لا يجد العقال الحريري رواجا بين الشباب، والعقال المخمل أيضا، لا يثبت على الرأس، لذلك أيضا لا يرتديه الشباب الا في المناسبات.

ويمثل العقال قيمة معنوية كبيرة لدى الخليجيين، حيث يدلّ على الرجولة والشهامة، وعند رمي الرجل لعقاله في مجلس القبيلة أو المجالس العادية، فإنه لا يعود للبسه إذا قام أحد بجرح كبريائه أو كان له مطلب يريد تحقيقه، إلا إذا عاد إليه اعتباره ولبى له طلبه، ويرى أنه غير جدير بلبس العقال إذا ما لم يتم ذلك. كما أنه يمثل مكانة عظيمة عند الفلاحين والبدو الذين لم يثأروا بعد لقتيلهم، فيحرِّمون على أنفسهم لبس العقال حتى يثأروا من خصمهم، فيعاودون لبسه لأنهم أثبتوا رجولتهم واستحقاقهم لرمزها. ولم تقف الظاهرة إلى هذا الحد وحسب، بل يعد رفع العقال في وجه أي شخص اهانة كبيرة له تقوم على اثرها خلافات عظيمة، بينما يمثل خلع العقال أو رفعه لأعلى الرأس، من مظاهر العزاء، ويدل تمييل العقال إلى اليمين، على الانتماء لقبيلة من قبائل شمال السعودية، حتى قيل في اللهجة السعودية: «حايل.. والعقال مايل»، في اشارة لمنطقة حائل (شمال البلاد)، فيما يدل وضع العقال على الطاقية مع جعل الشماغ أو الغترة على الكتف، من مؤشرات العجلة في الأمر وعدم الاكتراث بالمظهر، أو احدى دلالات الانفلات والخروج عن المألوف.

ومعلوم أن العقال في الماضي كان حكراً على الملوك والأمراء والشيوخ والتجار، كما ذكرت المصادر التاريخية عن الأزياء الخليجية. فإن الخليجي لم يكن يرتدي العقال بشكل دائم إلا في المناسبات الدينية والأعياد، حيث كان ارتداء العقال مقصورا على الملوك والشيوخ وطبقة التجار في اشارة للمكانة الاجتماعية التي يتمتعون بها، فيما أصبح اليوم أمراً مشاعاً ويلبسه كل من أراد ذلك، والغريب أنه بإمكان الفرد أن يتعرف على الحالة المزاجية والنفسية للمواطن الخليجي من طريقة وضع غترته أو عقاله فوق رأسه، فإذا جعله في الوسط فهذا يعني أن مزاجه «عال العال»، في حين إذا حرك العقال يمينا أو يسارا. فهذا يعني أن مزاجه «متعكر»، أو أن هناك شيئا لا يريحه، وإذا رأيت الخليجي بدون عقال أو أرجعه إلى مؤخرة رأسه، فهذا يعني أن عنده حالة وفاة، حيث عادة ما ينزع الخليجي عقاله حزنا على رحيل شخص مهم أو عزيز عليه باستثناء رجال الدين والمشايخ الذين لا يفضلون لبس العقال.

ولا يخلو لبس العقال من بعض الطرافة، حيث ارتبط اسمه واكتسب شهرته لدى الخليجيين عامة، كأداة تأديب ووسيلة من وسائل الضرب المفضلة لديهم، وهو ما دفع احمد الخزمري، للحديث عنه بابتسامة تملأ وجهه، يقول الخزمري: «العقال أيضا يختلف الآن عما كان في السابق فكبر حجمه ولم يعد كما كان نحيفا، وربما ان في هذا رحمة بالصغار، لأن آباءنا لم يكونوا يتأخرون لحظة في ضربنا به اذا أخطأنا، كما أتذكر أنه كان سلاحي المفضل في وقت مضى لمواجهة الخصوم، وأتذكر أني كنت أشتري من 3ـ5 عقل في كل عام بسبب المشاجرات التي كانت تحصل معي، واستخدم فيها العقال كحل للقضية، لينتهي بي المطاف إلى أقرب مركز للشرطة، بينما يذهب عقالي إلى أقرب حاوية للنفايات بسبب تمزقه».