أول من أدخل الكاريكاتير للصحافة السعودية وألف كتابا مدرسيا وأنشأ مسرحا في مكة المكرمة

الراحل أحمد السباعي..81 عاما من الفكر والإنجاز

TT

«من هنا كان الطريق» بهذا العنوان كان يطل أنموذجا انسانيا مثقفا لم يتكرر مثاله وهو الراحل الأديب أحمد السباعي منذ ما يقارب نصف قرن خلال زاويته الصحافية بمجلة قريش عام 1380هـ، على الذين شغفوا بقلمه وفكره السبّاق لزمنه وجيله خلال النصف الأول من القرن العشرين، وقد جرّت عليه الكثير من المتاعب مع أصحاب الفكر التقليدي ممن لم يتفقوا مع رؤاه وأحلامه التي وسعت المجتمعات العربية الأخرى ولم تجد مكانا في وطنه.

والسباعي ابن مكة المكرمة التي ولد فيها عام1323هـ وأحبها بشغف حتى ألف فيها كتابا هاما من مؤلفاته التي بلغت 16 كتابا وهو (تاريخ مكة) تناول فيه حياتها كاملة بدقة الأديب الذي تأثر بالمدرسة المهجرية الأدبية خاصة وهي محل مهنته الطوافة التي ارتبط بها ومارسها توارثا عن أبيه وشغف بها لدرجة تأليفه فيها كتابين هما (المرشد إلى الحج والزيارة) و(مطوفون وحجاج).

«أيامي» الكتاب الذي أراد السباعي أن يلوح بيديه لكل من عرف عنه شيئا بسيطا كي يقدم له أوراقا من حياته سقطت في الخريف من قبيل السيرة الذاتية التي حمل فيها مشاعره وكفاحه وعصاميته، ومن أوراق الطفولة يقول «سماني أبي أحمد ودللتني أمي فكانت تناديني أحمد حمادة» لكن هذا التدليل لم يستمر طويلا بسبب معتقدات الآباء حينما رأوا أن القسوة هي صانعة الرجال فتحول والده إليها لكن القسوة جعلته كما يقول في (أيامي) «تركت هذه القسوة أثرها في نفسي هيأتني للعناد والمكابرة وعلمتني قلة المبالاة وشجعتني على كثير من الصعاب التي يخشاها غيري». لكن قسوة الأبوة في التربية توقفت عندما توفي والده وعمر أحمد 14 عاما كي تتناوله الحياة بقسوتها، إذ دفعته لتحمل مسؤولية إعالة أسرته مما اضطره لترك المدرسة بعد أن اتم حفظ القرآن خلال ثلاث سنوات في مدرسة المسعى الابتدائية، والتحق بعدها بالمدرسة الراقية بجبل هندي وهي تمثل المرحلة المتوسطة التي اضطر لتركها بعد وفاة والده وأخذ يشتغل ببعض الأعمال الحرفية واليدوية لبضع سنوات. لكنه استطاع أن يتقاضى مبلغ 13 ريالا كأول راتب يحصل عليه في حياته بعد أن التحق بمديرية المعارف مدرسا في مدرسة دار الفائزين، واستمر في التدريس الذي أخلص له بيقينه عشر سنوات ألف خلالها أول الكتب التعليمية الوطنية في المملكة العربية السعودية بعنوان (سلم القراءة العربية) المكون من ستة أجزاء قد وضع لتدريس القراءة العربية في المدارس السعودية.

لقد أحب السباعي القراءة كثيرا ومنها عشق الكتابة والصحافة وكان أول مقال له في صحيفة صوت الحجاز التي عمل بها محررا وما لبث أن أثبت اجتهاده وصعد سلم المناصب حتى أصبح مديرا لشركة الطبع والنشر التي كان قد آل إليها امتياز إصدار الجريدة وأصبح رئيس تحريرها. لكن الحلم في عيني السباعي يظل واسعا جدا بحجم السماء فبعد تقاعده من وزارة المالية عام 1370هـ عاد إلى ما شغف به، وأسس مطبعة الحرم وبعد سبع سنوات أصدر جريدة الندوة عام 1377هـ ورأس تحريرها وحول اسم مطبعته إلى مسماها واستمرت إلى أن تم دمجها مع صحيفة «حراء» وبقيت بمسمى الندوة حتى آلت لمؤسسة مكة، لكن وجها آخر للصحافة كان قد أطل بإصداره لمجلة قريش عام 1380هـ التي عدت مختلفة عن مثيلاتها بما اتسمت به من جرأة وواقعية وقد أدخل فيها الفن الكاريكاتيري لأول مرة في الصحافة السعودية التي لم تعره قبله أي وزن، لكن قريش لم تستمر طويلا بسبب تحويل الصحف والمجلات إلى المؤسسات الأهلية.

إلا أن الحلم الأكبر الذي رقد بين جفني السباعي طويلا ومات معه كان عظيما رغم ركضه المستمر وإنجازاته، فتنوير المجتمع للقضاء على الجهل والتقاليد العتيقة كان شغله الشاغل خاصة وهو يسافر إلى مصر ويرى بها المسرح وقد اطلع على آدابها فكان حلمه الأكبر والأكثر جرأة والأوسع خيالا وهو وجود المسرح السعودي.

ولم يتوقف عند حد الحلم والتنظير والمطالبة اذ كان أبناء جيله يعمدون إليه بل حوله إلى حقيقة ليتولى بنفسه ومن ماله الخاص تجهيز هذا المشروع وبناء مسرح سعودي باسم (دار قريش للتمثيل القصصي) يتسع لـ1000 كرسي أقامه على أرض واسعة كان يملكها بجوار منزله في حي جرول بمكة المكرمة بعد أن حصل على التصاريح اللازمة عام 1381هـ 1961م من وزارة الإعلام وعلى موافقة الملك سعود بن عبد العزيز رحمه الله، وبعد بنائه وتدريب الممثلين وإحضار مخرج مصري دربهم على أول مسرحية بعنوان (فتح مكة) قصة اسلامية، اقفل المسرح قبل افتتاحه بيوم واحد بسبب توجس وخوف التقليديين من تحوله لملهى يختلط فيه النساء بالرجال، وذهبت أمواله التي خسرها في مشروعه دون تعويض.

أما الكتابة فهي لديه أمل لمشروعات اجتماعية يرجو تحقيقها في ظل ظلام الجهل والتعصب الاجتماعي وكونه رجل تعليم فقد طمح أيضا لأن تتاح فرصة التعليم للفتاة السعودية التي يراها حبيسة جدران حرمتها منه وحصرتها في المشغولات اليدوية وحفظ السور القصار من القرآن على يدي الفقيهات فحسب، والمجتمع حينها يرى خروجها إلى المدرسة عاملا من عوامل الفساد التي ستؤدي إلى سفورها واختلاطها بالرجال، فكان صوتا لها مدافعا عن حقها واستخدم كل وسيلة لذلك نحو كتابته لزاوية صحافية باسم فتاة مستعار حاول من خلالها توضيح قدرة الفتاة على أن تكون واعية وفاعلة في المجتمع دون سفورها واختلاطها بالرجال، وألف قصته الرائدة في الأدب القصص السعودي (فكرة) التي يعدها البعض بداية عالم الرواية السعودية، وحاول في قصته الطويلة تصوير بطلة اسمها فكرة مثقفة ومحاورة وفاعلة وهي حلمه في تمثيلها للفتاة السعودية حينها، وخاض لأجلها معاركه مع أولئك الذين تحفظوا تجاه تعليمها ورأوا فيه فسادا لأخلاقها، حتى استطاع تحقيق حلمه ونالت الفتاة فرصة التعليم.

لقد ظل السباعي محاربا بالقلم والفكر والإنجاز، لم يكن يتحدث فقط بل كان يعمل بما يقوله ولذلك كان رائدا في الصحافة والمسرح والتعليم والأدب وفي تشكيل إنسانيته التي عرفها المحيطون به إذ يذكر المحامي محمد سعيد طيب في إحدى مقالاته عنه أنه قال له ولزملائه رغم اختلافهم معه وشعورهم بتواضع أحلامه وتراجعية أفكاره حينها «أنا أحلم بكيان صغير.. صغير جدا.. أعيش فيه حرا وسيدا ولا يهمني من يتولى الأمر، وأضاف ضاحكا: خذوا المطبعة وخذوا الجريدة وخذوا البيت واكفلوا لي كرامتي ولا (مدت اليد)». إن تحققت الكثير من طموحاته وأحلامه في المجتمع السعودي وحاز على إنجازاته جائزة الدولة التقديرية فإن المسرح مات معه دون أن يحاول أحد من المنادين له أن ينهض بالحلم مرة أخرى لكن أكثر ما شغله هو التعليم وقد ذكر محمد عبد الله مليباري في ذكرى وفاة السباعي الرابعة كلماته له قبل رحيله عن الحياة بأيام وهي «لقد كرمني الله فأبقاني حتى شهدت ما كنت أعمل بجهدي المتواضع في سبيل التعليم، سأموت يا محمد وأنا قرير العين مطمئن» ومات السباعي في الطائف بالهدا يوم الثلاثاء عام 1404 هـ وعمره 81 عاما ليحتضن جسده الثرى في قبور المعلاة بمكة المكرمة التي كتب تاريخها بحب وكان هو جزءا من تاريخها المنتظر.