الشعراوي.. «مسحّراتي» السعودية

فلاح الأرض واللغة.. أحبته الكاميرا من أول نظرة

TT

«وقفنا في اللقاء السابق، عند قول الحق سبحانه..» هذا استهلال شهير، دائماً ما يردده مدرس اللغة العربية المصري الشيخ محمد متولي الشعراوي، والذي كان سماعه أو رؤيته في التلفزيون دليلا على اقتراب طلوع الفجر، فكان كالمسحراتي في التلفزيون السعودي، ولفترة ليست بسيطة في الماضي، إلا أن تنبيهه كان بالقرآن واللغة.

كان قليلاً ما يسكن في كرسيه المعد لدروسه في تفسير القرآن الكريم، لأنه يعتمد «مسرحة» الحديث، ويشرك مستمعيه القريبين منه في الكلام، ودائماً ما يسأل باللهجة المصرية الدارجة، إلا أنه لم يكن مستحضراً التسجيل التلفزيوني أثناء حديثه، ولذلك يصبح متابعو برنامجه وكأنهم في المسجد نفسه، الذي يلقي الشيخ الشعراوي فيه دروسه.

في السبعينات من القرن الماضي، وبعد عودته إلى القاهرة، قادماً من السعودية، ظهر الشيخ محمد متولي الشعراوي في برنامج «نور على نور» لأحمد فراج، والذي يعد أول ظهور له على المستوى العام عبر شاشات التلفاز، حيث استشعر من خلاله المشاهدون والمتابعون أنهم أمام أسلوب جديد وفكر مختلف وعرض مميز، من خلال تحديثه للقديم، بنمط عصري وبسيط.وعقب ما لاقاه الشعراوي من قبول العوام، انخرط في محاولة لتفسير القرآن الكريم، مكرساً جل وقته لهذه المهمة، ولكونه أستاذا في اللغة العربية، ومع موهبته في الشرح وبيان المعاني، تمكن من الاقتراب من التفسير اللغوي لكل حرف وآية من القرآن الكريم، ونقل أعمق الأفكار بأبسط الكلمات، رغم تعرض آلاف العلماء على امتداد القرون والدهور له.

كما يعد العالم أو المفسر القرآني الوحيد، الذي اعتمد التفسير من خلال إطار شفهي مرئي عبر شاشات التلفاز، عقب أن اقتصرت حلقات الشعراوي بين جموع المصلين في القاهرة، الذين عادة ما يتوافدون من كافة الدول العربية والإسلامية.

وكثمرة لثقافته البلاغية وإدراكه للإعجاز القرآني البياني، مكنه ذلك من كشف أسرار جديدة، تجمعت بسببه قلوب البالغين والأطفال من حوله على حد سواء، وتسمروا أمام حلقاته ومحاضراته، التي غالباً ما تتسابق الفضائيات العربية على عرضها في الأمسيات الرمضانية. وبالرغم من إصدار خواطر مطبوعة لحلقات الشعراوي التي انتظمت بشكل أسبوعي على مدار أعوام ماضية، في أجزاء تحت مسمى «تفسير الشعراوي»، ورغم الانتشار الواسع لها، والإقبال الجماهيري الكبير، والرواج التجاري، ما زال يعتقد أن هناك بوناً شاسعاً بين عملية مشاهدة وسماع تفسير الشعراوي للقرآن، وعملية قراءته مكتوباً ومطبوعاً.

وظهر شبه اتفاق على أن الشعراوي «يسمع ولا يقرأ» وذلك لما تميز به من خصائص شخصية ومهارية كطلاقة اللسان وخفة الظل والوجه الباسم، إلى جانب احتفاظه باللهجة الريفية المدللة على جذوره القروية، والتي أوجدت له نوعا من الشعبية بين أوساط الناس.

كذلك حرصه على الاجتهاد في شرح بعض النقاط التي تستعصي على الفهم، مع ضرب الأمثلة المتعددة للتدليل، والتي قد يستخدم من بينها بعض الألفاظ الفكهة لإسقاط الحواجز فيما بينه وبين الجمهور.

وما أن يتردد على أسماع العامة اسم الشيخ الشعراوي، حتى يتبادر فورا على أذهان الجميع صورته التلفزيونية، والتي أظهرت من خلالها إيماءاته وحركاته الخاصة، مقدمة كاريزما خاصة بالشيخ متولي الشعراوي.

ولد محمد متولي الشعراوي في الخامس من أبريل (نيسان) عام 1911 بقرية دقادوس، مركز ميت غمر بمحافظة الدقهلية، وحفظ القرآن وهو في الحادية عشرة من عمره، كما حفظ الشعر والمأثور من القول والحكم، ليتحصل على الشهادة الابتدائية الأزهرية عام 1923، ودخل المعهد الثانوي، وزاد اهتمامه بالشعر والأدب وحظي بمكانة خاصة بين زملائه، ليتم اختياره رئيسا لاتحاد الطلبة، ورئيسا لجمعية الأدباء بالزقازيق.

وعندما رغب والده في إلحاقه بالأزهر الشريف بالقاهرة، عارض الشعراوي الرغبة لتمسكه بزراعة الأرض، ولكن إصرار والده اضطره إلى قصد القاهرة، وحتى يشق على والده، اشترط شراء عدد كبير من أمهات الكتب في التراث واللغة وعلوم القرآن والتفاسير وكتب الحديث النبوي الشريف، كتعجيز لوالده لإرغامه على إرجاعه.وبعد فشل المحاولة، فطن والده لحيلته وقال له «جميع هذه الكتب ليست مقررة عليك، ولكني آثرت شراءها لتزويدك بها» فكانت هذه الكلمات نقطة تحول رئيسة في حياة الشعراوي، فالتحق بكلية اللغة العربية عام 1937، منشغلا إلى جانب ذلك بالحركة الوطنية والحركة الأزهرية.

وتخرج الشيخ عام 1940، وحصل على العالمية (الدكتوراه) مع إجازة التدريس عام 1943، لينتقل الشعراوي إلى السعودية عام 1950 للعمل أستاذا للشريعة بجامعة أم القرى في مكة، بعد فترة خبرة طويلة تنقل فيها على عدد من المعاهد الدينية بالقاهرة. ثم قام الرئيس المصري جمال عبد الناصر بمنع الشعراوي من العودة ثانية إلى السعودية في 1963، ليعين في القاهرة مديرا لمكتب شيخ الأزهر حسن مأمون، فمكث بعد ذلك في الجزائر لما يقرب السبعة أعوام؛ كرئيس لبعثة الأزهر هناك، ليعود مرة أخرى عقب نكسة يونيو (حزيران) 1967 إلى السعودية، ليحاضر في جامعة الملك عبد العزيز في جدة، حيث أسندت له في نوفمبر (تشرين الثاني) 1976 وزارة الأوقاف وشؤون الأزهر، حتى أكتوبر (تشرين الاول) من عام 1978. وكان قد تزوج الشيخ الشعراوي بناء على رغبة والده وللمرة الثانية وهو في الابتدائية، موافقا أيضا على اختياره لزوجته، لينجب الشعراوي ثلاثة ذكور وفتاتين. من جهته حاز الشعراوي عددا من الأوسمة والجوائز التقديرية التي من بينها، وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى لمناسبة بلوغه سن التقاعد في 1976م قبيل تعيينه وزيرا للأوقاف وشؤون الأزهر، كما منح أعلى وسام جمهوري من الطبقة الأولى عام 1983، وعام 1988، إلى جانب وسام آخر في يوم الدعاة، كما حاز جائزة دبي لشخصية 1998.

حصل على الدكتوراه الفخرية في الآداب من جامعتي المنصورة والمنوفية، واختارته رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة عضوا بالهيئة التأسيسية لمؤتمر الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة النبوية.

أعدت حوله عدد من الرسائل الجامعية، وللشيخ الشعراوي عدد من المؤلفات من أشهرها تفسير الشعراوي للقرآن الكريم إلى جانب، أسرار بسم الله الرحمن الرحيم، الإسلام والفكر المعاصر، الإسلام والمرأة، عقيدة ومنهج، الشورى والتشريع في الإسلام، معجزة القرآن، 100 سؤال وجواب في الفقه الإسلامي، وغيرها. وبرحيل الشيخ محمد متولي الشعراوي في 17 من أبريل (نيسان) 1998، أمضى الشعراوي 12 يوماً و87 عاماً بين فلاحة الأرض واللغة، وبقي للسعوديين كذكريات لرمضان القديم.