يوسف المرحوم يحفر الخشب منذ خمسين عاما

أعماله تحيي التراث الشعبي المحلي وتبقيها في الذاكرة

TT

تتناثر قطع الخشب الصغيرة تحت الضربات المتتالية من يد الحرفي يوسف أحمد المرحوم. وبينما ينهمك بتفاصيل الزوايا والإنحناءات على متن اللوح الممد أمامه، تبدأ ملامح الصورة المرسومة بالظهور: فها هنا بحار يحضر شباكه ليرميها في البحر والى جانبه آخر يساعده وخلفهما مركب تتقاذفه الأمواج.

يجلس الحرفي المرحوم، 66 سنة، متربعاً أمام اللوح مشروع اللوحة متسلحاً بصندوق «العدة» يختار منه ما يناسب الرسومات المعدّة ليحفر فيها بإتقان ومهارة اكتسبهما على مدى أكثر من خمسين سنة، «كانت هواية لدي نميتها بالممارسة، ولم أتعلمها من أحد» يقول بصوت ترك فيه المرض حشرجة تغيّب أحياناً الكلمات. ولا تفارق الابتسامة ذلك الوجه الذي اجتاح الحزن ملامحه، أو هي ربما بقايا فترة المرض التي تركت أثرها عليه، فلا يمكن أن يلمح المرء تلك العينين الغائرتين من دون أن يلمح بهما أسى لا يعرف سببه.

يراقب الحشد باهتمام كيف تتنقل الأنامل الماهرة بين جنبات اللوح الخشبي. وبينما يستوقف العمل المتقن الذي يقوم به المرحوم كل من يراه، تجده في وسط هذا الازدحام منكباً على عمله منصرفاً عن كل ما حوله. لكن الانهماك في انجاز «تحفة» جديدة لا يمنعه من الاجابة على أسئلة الحضور واستفساراتهم.

بين مجموعة كبيرة من المنحوتات الخشبية التي أنجزها على مر السنوات، جلس المرحوم في المهرجان الرمضاني لجمعية القطيف الخيرية، هناك حيث ارتفعت الجدران الطينية ممثلة العمارة القطيفية القديمة. يجلس في ركن خاص به وبتحفه، الى جانبه باب منقوش بزخارف قديمة من تراث المملكة، وحوله صناديق مشغولة كانت تستخدم في الماضي لحفظ الملابس والأغراض واليوم يقتنيها الناس للديكور. وهناك مجسم لديوانية من الأحساء وآخر لمنزل قديم والكثير من المجسمات الخشبية التي تعبر عن تراث المنطقة الشرقية وباقي أنحاء المملكة وهناك المرايا والتحف المرصعة بالنحاس والزجاج والحديد.

يساعد المرحوم في عمله ابنته مدرسة التربية الفنية التي تهتم برسم العمل ليقوم والدها بحفره، فتتحول أدوات الحفر في يده الى فرشاة يطوعها بألوان الموهبة ليخرج الخشب مصقولاً كلوحة بديعة. يمكن أن تصادف المرحوم في العديد من المعارض والمهرجانات التراثية كالجنادرية ومهرجانات الصيف في أبها والمنطقة الشرقية، وقد حصل على عدة جوائز من الرئاسة العامة لرعاية الشباب.

كما يمكن أن تشاهده مع أعماله من المنحوتات الخشبية والمجسمات المصنعة يدوياً هذه في مهرجانات عالمية، وقد شارك في معرض بالمغرب حيث نال جائزة منظمة «اليونيسكو» عن أحد أعماله، بالإضافة لمشاركات في لبنان ومصر وتايلاند.صحيح أنه يرفض بيع أي عمل من أعماله، ويؤكد أن «ما أقوم به هو هواية وليس لبيع منحوتاتي» لكن المرحوم يسعى بصورة دائمة الى تقديم الأعمال المميزة والمشغولة بإتقان والتي ترضي أذواق الجميع خاصة محبي التراث، والتي تجعله يتلقى العديد من العروض المغرية ومع ذلك يصمد رافضاً بيعها. ويتمنى المرحوم التوصل الى «إنشاء متحف دائم لأعمالي التي أخذت الكثير من وقتي»، وبذلك يكون هذا الحرفي أحيا بحرفته التراث الشعبي المحلي بأعمال تحمل من القيمة الفنية الكثير، وأبقاها في الذاكرة الشعبية حية للأجيال القادمة. وبانتظار تحقيق هذا الحلم يتخذ المرحوم منزله في مدينة الدمام مقراً لعمله وللإحتفاظ بمنحوتاته.وعن أنواع الخشب التي يتم الحفر عليها يشير المرحوم الى أن هناك «أنواعا كثيرة يمكن النحت عليها وأبرزها خشب الزان والتيك، حيث يصنع منها مجسمات للسفن والشبابيك والدرابزين والقلاع واللوحات الفنية».

ويؤكد المرحوم أن حرفة النحت على الخشب تعتبر «من الحرف القديمة جداً التي توارثتها الأجيال في المملكة وفي بلدان عديدة»، ويلفت الى أن «استخدام المنحوتات الخشبية ينحصر منذ فترة طويلة بالزينة خاصة لمن يهوى التراث، كما يقتصر وجوده على المشاركات في المعارض والمهرجانات». وبالطبع يعاني المرحوم كغيره من الحرفيين من غياب الدعم للتمكن من مواصلة رحلتهم الفنية.