الزحف على السواحل يفني أشجار القرم

تهديد الثروة البحرية بالتناقص والشواطئ بالتعرية

TT

قبل سنوات كان شجر القرم ينتشر حول سواحل القطيف مشكلاً حزاماً أخضر، ولم يكن يخلو ساحل من السواحل في المنطقة من هذه الشجرة الجميلة والمتميزة، لكن يد العمران امتدت لتطال المناطق الساحلية، وأتت المشاريع لتردم الشطآن لصالح الأبنية الباطونية والطرقات، فشهدت المنطقة الشرقية في السنوات الماضية عمليات دفن لشواطئها، مما تسبب في تناقص ملحوظ في كميات الأسماك والكائنات البحرية الأخرى التي يخرجها الصيادون في شباكهم بالمنطقة، خاصة الروبيان (القريدس) الذي يعتبر ثلث غذائه من مناطق نمو القرم.

وكان قد صدر اخيرا قرار ملكي نص على إنشاء محمية خاصة بأشجار القرم المعروف بالمانجروف في مدينة الجبيل الصناعية على مساحة تصل الى 2300 كيلومتر مربع، وذلك في محاولة لإعادة جزء مما تدمر من غابات كانت تستوطن سواحل الشرقية، لكن أهالي المنطقة لا يخفون قلقهم على مصير هذه النبتة في ظل استمرار التوسع العمراني على حساب البيئة البحرية.

والسؤال الذي يطرح نفسه ما هو القرم؟، ويجب على ذلك المهندس حسين الحجري رئيس المهندسين بإدارة الهندسة في شركة «سافكو» بالدمام على شجر القرم في اللغة والتاريخ، فأشار الى أنه «ورد في لسان العرب تعريف لشجرة القرم جاء كالتالي: القَرْمُ: ضرب من الشجر، حكاه ابن دريد، قال: ولا أَدري أَعربي هو أَم دخيل. وقال أَبو حنيفة: القُرْم، بالضم، شجر ينبت في جَوف ماء البحر، وهو يشبه شجر الدُّلْب في غِلَظِ سُوقه وبياض قشره، وورقه مثل ورق اللوز والأَراك، وثمرُه مثل ثمر الصَّوْمَر، وماء البحر عدوّ كل شيء من الشجر إِلاَّ القُرْم والكَنْدَلى، فإِنهما ينبتان به. وفي كتاب المخصص لابن سيده: والقُرم واحدته ـ قُرمة ـ شجرة تنبت في جوف ماء البحر يشبه الدُلْب في غلظ سوقه وبياض قشره وجِنسُه أبيض وورقه مثل ورق اللوز والأراك ولا شوك له وثمره كثمر الصنوب وهو مرعًى للبقر والإبل تخوض الماء إليه حتى تأكل ورقه وأطرافه الرّطبة ويُحتطَب فيستوقَد به لطيب ريحه ومنفعته.

وتتكون كلمة Mangrove من كلمتين الأولى برتغالية Mangue وتعني شجرة، والثانية إنجليزية Grove وتعني مكان الأشجار، وقد ترجمت إلى اللغة العربية خطأ مقابر الإنسان والأفضل أن تسمى أيكة ساحلية. ومصطلح Mangrove هو مصطلح بيئي يستخدم ليشمل كلاً من الشجيرات والأشجار من ذوات الفلقتين والفلقة الواحدة، التي توجد فى المناطق الاستوائية وتحت الاستوائية الضحلة الواقعة تحت تأثير المد البحري. وقد اقترح بعض العلماء اقتصار كلمة Mangrove لتشير إلى النباتات المكونة لغابات هذه النباتات، وكلمة Mangal لتشير إلى المجتمع النباتي الذي تسوده إحدى هذه النباتات.

وعلى مستوى العالم يوجد حوالي 80 نوعاً من هذه النباتات منها 78 من ذوات الفلقتين ونوعان من ذوات الفلقة الواحدة، وهي تنتمي إلى 18 فصيلة و23 جنسا موزعة حول المناطق الاستوائية وتحت الاستوائية في العالم، يوجد العدد الأكبر منها (65 نوعاً) في منطقة جنوب شرق آسيا، بينما يوجد حوالي 11 نوعاً في العالم الجديد ومنطقة الكاريبي.

وتوجد في الوطن العربي ثلاثة أنواع من نباتات الأيكات الساحلية هي: Avicennia marina وRhizophora mucronata وBruguiera gymnorhiza. ويعتبر نبات القرم Avicennia marina »Forssk« Vierh كما يسمى في الجزيرة العربية أو الشورى كما يسمى فى مصر والسودان هو نبات الأيكات الساحلية الأكثر شيوعاً، حيث ينتشر حول ساحل البحر الأحمر الغربي مصر والسودان والساحل الشرقي المملكة العربية السعودية واليمن، كذلك على خليج العقبة والخليج العربي. ويبدو أن جيومورفولوجية ومناخ هذه السواحل تشجع نمو جماعات هذا النبات، حيث توفر الخلجان الصغيرة التي تنتهي إلى السواحل والمحمية جزئياً بالشعاب المرجانية أو الجزر وسطاً ملائماً لنموه بسبب كسرها لقوة الأمواج والتي عادة ما تدمر وسط النمو وتحمل البادرات بعيداً عن مهدها.

ويشير اسم الجنس Avicenna إلى العالم العربي أبو الحسن بن سينا صاحب القانون فى الطب الذي اكتشف عدة فوائد طبية له، أما اسم النوع فهو يشير إلى المناطق البحرية Marine. ويعتبر هذا النوع هو أكثر نباتات الأيكات الساحلية انتشاراً فى العالم، حيث يمتد من شرق أفريقيا والبحر الأحمر الذي يعتبر الموقع النموذجي له، إلى الشواطئ الاستوائية وتحت الاستوائية للمحيط الهندي حتى جنوب الصين، ومعظم استراليا حتى بولينيزيا وفيجي وجزيرة نيوزيلاندا. ويعتقد بوجود سبع سلالات لهذا النبات، لكن الفصل الشكلي بينها غير واضح، حيث أن الفصل فى معظم الأحوال مبني على أساس جغرافي.

ولخص المهندس حسين الحجري فوائد مستنقعات شجر القرم وما تؤديه من دور بيئي مهم في أنها «تساعد على تكوين التربة عن طريق تجميع الرواسب حول الجذور الدعامية والجذور الهوائية التنفسية فى المواقع المحمية. كما تقوم بتنقية ماء الجريان السطحي الأرضي، وكذلك إزالة المادة العضوية الأرضية». وفي مجال آخر «تنتج الأشجار كميات كبيرة من الفتات الذي سوف يشارك بدوره فى إنتاجية العديد من الكائنات الشاطئية. وتعتبر النبتة أوساطا للعديد من الأسماك الصغيرة واللافقاريات والعديد من النباتات والحيوانات (العالقة)، كذلك الطيور الكبيرة، حيث توجد شبكات غذائية تعتمد على الإنتاج العضوي لمستنقعات الأيكات الساحلية».

وأشار الحجري الى انه «يرعى القرم أحياناً بواسطة قطعان الجمال والماعز التي يربيها السكان المحليين، حيث تتغذى على أوراقه حينما تكون النباتات الأخرى غير متاحة خاصة خلال موسم الصيف، لكن لا يعتبر نبات رعي جيد بسبب ملوحته العالية. كما يستخدم السكان المحليون الأفرع كوقود عالي القيمة وهذا يفسر التدمير الكبير الذي يحدث لجماعات هذا النبات قرب المستقرات البشرية».

وعن علاقة القرم بالروبيان قال «يتكون ما يقرب من ثلث غذاء الجمبري أو الروبيان في مناطق الأيكات الساحلية من مواد نباتية، وتمثل الأجزاء المستخدمة من النباتات المكونة لهذه الأيكات حوالي 60% منها. وتتغذى الأسماك التي تعيش في الماء الضحل عادة، بقدومها مع موجات المد إلى هذه المناطق على الكائنات البحرية اللافقارية التي تعيش في الأيكات الساحلية. وعادة في مثل هذه النظم البيئية الضحلة يتم إزاحة كميات من المواد العضوية والدبال من هذه النظم إلى مناطق الماء المفتوح مما يساهم فى تغذية العديد من الكائنات البحرية بها».

وأوضح أنه «في كثير من بقاع العالم التى توجد بها غابات الأيكات الساحلية تستخدم أخشابها فى إقامة دعامات مناجم الفحم وطرق السكك الحديدية وأسقف المنازل نتيجة لصلابة أخشابها واستقامتها وفي بناء القوارب وإقامة الأسيجة والمنحوتات الخشبية وكوقود خشبي ذي رائحة طيبة».

وعلى الرغم من الصفات التشريحية لأخشاب الأيكات الساحلية من حيث قصر الألياف وسمك الجدر الخلوية، والتي تجعلها غير مناسبة للاستخدام بنسب كبيرة في صناعة عجين الورق، يشير الحجري الى أن «صناعة لب الورق أصبحت من أكثر الصناعات استهلاكاً لأخشاب هذه النباتات في اليابان، إضافة إلى ذلك فإن هذه النباتات تستعمل في الفلبين لإنتاج ألياف الفيسكوز المستخدمة في صناعة النسيج، كما يستغل كسر الخشب والأفرع الصغيرة والنشارة الناتجة عن استخلاص الدعائم والألواح في صناعة الخشب المضغوط المستخدم في التشييد والتأسيس». كما تستغل الأجزاء غير الخشبية مثل القلف والأوراق في إنتاج المستخلصات الكيميائية مثل التانينات والأصماغ والاصباغ.

وبين رئيس المهندسين في شركة «سافكو» أن غنى مستنقعات شجر القرم بالكائنات البحرية أعطى أهمية اقتصادية، فالبيئة الساحلية الغنية بأشجار القرم من أنسب المناطق لتكاثر وحضانة أنواع الاسماك مثل الروبيان والسرطان وذي الصدفتين والقشريات الاخرى وأنواع الحياة البحرية المختلفة. ففي هذه الأماكن تتوفر لها فرص الغذاء الملائم والتعايش ومناطق وضع البيوض، إضافة الى أهميتها لأغراض الحياة المائية فإنها تساهم في توفير الحياة لأنواع مختلفة من الطيور وتعمل كمناطق تناسب حياتها ومورداًً لغذائها، وتوفر لها سبل الحماية كذلك. كما تعمل أشجار القرم على تزويد المياه المحيطة بها بكمية كبيرة من المواد العضوية التي تساهم في إثراء البيئة المائية من حولها، وزيادة الغذاء لأنواع الكائنات البحرية، وذلك من خلال تساقط أوراق تلك الأشجار في البيئة المائية وتحللها لمركباتها الاصلية. وتعتبر هذه الميزة من العوامل التي تساهم في وفرة الانتاجية الاولية لهذه البيئة، وبالتالي فانحسار هذه النباتات يؤثر سلباً على الثروة البحرية.

وتابع، قد زُوّدت هذه النباتات بآلية خاصة تساعدها على استخلاص الماء العذب من المياه المالحة، ومن ثم إفراز الاملاح وطرحها خارج النبتة أو الشجرة عن طريق أوراقها. وذلك عبر آلية تلقائية لذا من الضروري لهذه النباتات الحصول على كمية من الماء العذب، والذي يصل اليها عن طريق الامطار أو الجليد أو الندى أو الضباب، حيث تساهم هذه الكميات الضئيلة من الماء العذب بغسل أوراق الشجرة مما علق بها من أملاح نتيجة لعملية النتح وإخراج الاملاح.

وأشجار القرم عبارة عن مجموعة نباتات استوائية نموذجية دائمة الخضرة تمثل نمطاً خاصاً من الأشجار التي تنمو في المناطق المحمية من أثر التيارات العنيفة بين منطقتي المد والجزر، والأمر المثير في شجر القرم أنه ينبت على الشواطئ البحرية المالحة التي يغمرها الماء في حالة المد وينحسر عنها عند الجزر. ويتحمل شجر القرم ملوحة مياه البحر لذا تفضل النبتة التربة الطينية والصلصال الناعم محبة للأملاح، وتنمو في نظم مائية تصل ملوحتها أحياناً الى 7000 جزء بالمليون P.P.M. وتختلف نسب تحملها للملوحة باختلاف أنواعها.

وبحسب المهندس الحجري فأشجار المانجروف ذات خاصية انتاجية مرتفعة، إضافة الى مقدرتها على حماية الشواطىء من عوامل التعرية والتجوية، وتعيش في درجات حرارة ما بين 19 و42 درجة مئوية، لذا يوجد شجر القرم على شواطئ المناطق الاستوائية والمدارية، خاصة في مناطق جنوب شرق آسيا. وتظهر شجيرات المانجروف فوق سطح الماء وكأنها جزر نباتية، تجتمع على شكل مستعمرات من الأجمات الخضراء الداكنة اللون، ترتفع فوق سطح الماء بمقدار متر أو مترين، لكنها قد تصل الى ارتفاع ثلاثة أمتار فتشكل أشجاراً عالية نسبياً كما هو الحال في جزيرة القرم.

وقال: تمتاز أشجار المانجروف عن سواها من النباتات بخصائص مميزة منها أنها ذات جذور هوائية وتنبت البذور على الشجرة وأخيراً الغدد الملحية، ويكون القرم حزاماً غابياً سميكاً على امتداد مصبات الانهار وبسبب نمو القرم في المناطق الضحلة التي تشبه المستنقعات، حيث التربة رديئة التهوية، فلا تجد جذور هذه النباتات كفايتها من الاوكسجين اللازم لتنفسها، حيث تنمو من الاجزاء السفلى للنبات المطمورة جذور عرضية تنفسية تتجه الى أعلى، وتظهر فوق سطح التربة كسيقان نامية يبلغ طولها بضع سنتيمترات حتى نصف متر. وتحتوي أنسجة هذه الجذور التنفسية على فراغات هوائية واسعة، كما تنتشر على سطحها عديسات كثيرة عبارة عن فتحات تنفسية تعمل على تبادل الغازات وتوصل الهواء الجوي بالفراغات الهوائية التي تتخلل أنسجة الجذر الداخلية. كما يتميز نبات القرم بأن بذوره تنبت وهي على النبات قبل أن تسقط على الارض. وهذه الظاهرة الشاذة لنمو البذور وهي على أبويها يعطيها ميزة نمو الجذور قبل سقوطها مباشرة على البيئة المائية المالحة غير المناسبة لنمو البذور مباشرة.

وواصل، يعد القرم مصدراً فريداً، فأشجاره تستخدم لأغراض عديدة كأن تؤخذ منها مادة التانين والعجينة الورقية وأخشاب المداخن وأخشاب الفحم إضافة الى المواد الاخرى التي يمكن استخلاصها بالطرق الصناعية. واستخدم قديماً لحاء شجر القرم للأصباغ وخشبه للبيوت والأثاث والقوارب لتحمله الماء ولصلابته، ويستخدم أيضاً كوقود للطهي. أما الأوراق فتجفف ليعمل منها الشاي أو كغذاء للحيوان، بينما الثمار قد تؤكل، أما الأزهار فيستفاد منها في تربية النحل.

وأضاف، يبدأ موسم الإزهار لأشجار القرم مع أواخر شهر ابريل (نيسان) من كل عام وتنضج البذور مع أواخر شهر أغسطس (آب) ومنتصف شهر أكتوبر (تشرين الأول)، وتغطى هذه البذور بطبقة رقيقة خضراء مانعة لتسرب المياه، وتطفو هذه البذور على سطح المياه بعد نضجها وسقوطها من الشجرة الأم، وتنفصل القشرة التي تغطي البذرة تلقائيا خلال دقائق معدودة وتغوص في مياه البحر وتستقر في القاع. ولا بد للبذور من الوصول إلى منطقة المد والجزر لتجد المناخ الملائم للبقاء حية، بينما تنعدم فرص الحياة والإنبات للبذور التي تحملها التيارات إلى المياه العميقة. وتنبت الجذور خلال عشرة أيام لتثبيت النبتة في منطقة المد والجزر بينما يظهر المجموع الخضري خلال 15 الى 20 يوماً.

ويؤكد المهندس حسين الحجري أن التدمير المباشر للمناطق الساحلية الرطبة التي تتخذها العديد من الكائنات الحية بيئة للتكاثر أو مصدرا للطعام، يعدّ من أهم العوامل التي تعجل بتدهور الحياة البحرية، إذ أن تجفيف تلك المناطق بغرض تنفيذ مشروعات البناء على طول السواحل وشق الطرق أدت إلى تدمير العديد من هذه المناطق خاصة القيعان البحرية المكسوة بالعشب والتركيبات الصخرية التي أحدثتها الأمواج والتي تزخر بالحياة الفطرية. ويشير الحجري الى أن «أكثر الآثار المدمرة هي تلك الناتجة عن نقل الأمواج للنفط المهدر بسبب حوادث الناقلات ومنصات استخراج النفط وغيرها، باتجاه السواحل مما يؤدي الى قتل كل الكائنات النباتية والأعشاب الحيوانية التي تقع في طريقها. كما أن النفط يلتصق بجذور وبراعم نباتات الأيكات الساحلية فيقتلها».

ونوه الحجري بما تقوم به «بعض دول الخليج التي بدأت في تطبيق برامج استزراع نبات القرم لتنمية البيئة البحرية»، لافتاً الى أن هذه النباتات «تتعرض للتدمير على طول سواحل القطيف وذلك بغرض التوسع العمراني والإنشائي كما هو حاصل على سواحل القطيف والعوامية وصفوى. وإذا تواصلت عمليات تدمير هذه المحميات الطبيعية، فإن ذلك سيكون نذيراً بتدمير البيئة البحرية لسواحل الخليج، كذلك تهجير بعض الأحياء البحرية أو انقراضها». ودعا للعمل «سريعاً على وضع برامج تنموية لاستزراع هذه الأشجار للحفاظ على البيئة البحرية»، مؤكداً على أن «دور المجلسين المحلي والبلدي يأتي هنا للعمل جدياً على الحد من هذه الظاهرة الخطيرة ووضع آليات لوقف الاستنزاف البيئي حتى تنعم سواحلنا بحزامها الأخضر مرة أخرى».