خالد زارع.. موظف الهاتف الذي قدم السياحة التلفزيونية عبر «ربوع بلادي»

مارد مايكرفون الإذاعة في عصرها الذهبي

TT

صوته يأتي عبر الأثير معجون بالندرة ومغلف بسولفان الفخامة، يعطره عبق من الماضي الجميل، لم يكن صاحب الحنجرة الذهبية مجرد صوت اتسم بالنداوة والحلاوة، خالد زارع الصوت الإذاعي الرخيم الذي يضاهي في طبقة صوته مذيعي صوت لبنان في أوائل الستينات، وربما عبر بصوته مسافات الأمكنة ليستحضر الزمان في نشرة الأخبار مجسدا بروعة الأداء وحسن الإلقاء التي كما أوضح علي السبيعي الممثل المسرحي بجمعية الثقافة والفنون بجدة «حلاوة الصوت عند خالد وندرته تركت بصمة خاصة لدى المستمع يستطيع تمييزها».

موظف الهاتف الذي بدأت تداعبه موجات البث الإذاعي مع بدء انطلاقته لم يتمكن من التغاضي عن مغازلة مايكروفون الإذاعة فكانت بداية المشوار الإذاعي في العام 1957، من الميدان الذي تناوب فيه لأعوام عديدة على تقديم الفرسان من خلال برنامجه «فرسان في الميدان» ليعتلى من بعده صهوة الجواد الإعلامي في العصر الذهبي للإذاعة السعودية من خلال البرنامج الثاني ويكون أحد فرسانها الأوائل الذين عملوا على تثبيت أركانها من خلال قراءة نشرات الأخبار التي أعطاها الزارع ذلك التميز لدى المستمع السعودي وارتبط بها من خلال صاحب الصوت الرخيم، ويبدأ تقديم البرامج الإذاعية مع مذيعي تلك الفترة من أمثال عبد الرحمن يغمور ويوسف شاولي كما أوضح محمد رجب «كان من أبرزها مجلة الإذاعة التي كانت تقدم منوعات ثقافية وفنية».

ولم يكتف صاحب الحنجرة الذهبية بمايكروفون الإذاعة، ليبث من خلاله الأحداث والآلام التي تعتصر العالم بين قبضتها، بل كان مبدعا حقيقيا تمكن من أن يخرج المارد المحبوس في صدره، لينشر إبداعه في الساحة الإعلامية، ممتطيا هذه المرة مسرح الإذاعة من خلال أدائه كممثل، وليرفده بنصوص قلمه المغموس في أمواج عروس البحر الأحمر، والمعتق بحاراته القديمة وحكايا ناسها البسطاء، وليبدأ المسرح الإذاعي انطلاقته في العام 1962 ـ 1963، من خلال ممثليها الذين وجدوا في نصوص الزارع روح الحياة التي يعيشها ابن البلد، والتي استمدها من واقع الحياة اليومية وبحسب تعبير السبيعي «استطاع أن يغرس هذه الشخصيات في عالمنا ووجداننا مثل أبو عرام والأفندي».

أعمال أبو خزام الإذاعية لم تقتصر على الدراما الإجتماعية، بل تمكن من تقديم المسلسل التاريخي، وربما كان من أشهرها «عمرو بن العاص»، والذي ترك صدى طيبا حينها كما أشار لذلك الناقد محمد رجب، مدرسة خالد زارع التي أتسمت بحسب علي السبيعي «لم يكتب الترفيه بل الدراما الإجتماعية بواقعية ممزوجة بحس فكاهي»، خرجت الكثيرين من ممثلي الإذاعة ومذيعيها والذين لا يزال كثير منهم عاشقا لأسلوبه من أمثال عدنان صعيدي، خالد جاد، سعود الذيابي والفنان عبد الستار صبيحي، ولم يكتف المارد المبدع بالكتابة فقط بل عمل على تطوير بعض الشخصيات الإذاعية التي قام بكتابتها مثل «مشقاص» الشخصية التي اشتهر بها الفنان حسن دردير والشخصية الفنية للراحل لطفي زيني.

وإبداع مارد إذاعة البرنامج الثاني بجدة لم يقف عند حدود المايكروفون، بل انطلق به يحمله ليقف أمام كاميرات مصوري التلفزيون، كمذيع تارة، ويقف خلفها كمخرج منفذ تارة أخرى، وبين لغة الصورة وأثير صوت الفخامة، ينساب حبر قلم خالد زارع، ليرسم هذه المرة الصورة التلفزيونية من خلال السهرات، بمشاركة رفاق درب التشخيص الدرامي، أمثال محمد حمزة وأمين قطان وعلي بعداني وعبد الرحمن حكيم كما أوضح محمد رجب، إضافة لسهرات قدمها مع الدردير والشاولي، ولم تخل التجربة التلفزيونية للزارع من التميز الإبداعي، من خلال بساطة الطرح وعمق الفكرة التي اتسم بها برنامجه «كلمة عتاب»، والذي قدم من خلاله ما يطلق عليه التوجيه التلفزيوني الآن في قالب درامي محبب.

و«خالد زارع سبق زمنه»، بهذه العبارة لخص علي السبيعي تجربة ربوع بلادي، أول برنامج قدم من خلاله مفهوم السياحة التلفزيونية من خلال زيارة القرى والهجر والمناطق المختلفة للمملكة، عبر عدسات الكاميرا في منتصف السبعينات الميلادية ليستمر حتى أوائل الثمانينات، وبالمقدمة الغنائية للبرنامج استطاع الزارع من خلال كلماتها أن يرسم مشاعر حب وارتباط بالأرض وحنين للذكريات تمثل في التراث الثقافي والفلكلور الخاص بكل منطقة، يقول مطلعها «ربوع بلادي/علينا بتنادي/بتقول تعالوا/شوفوني يا اولادي»، نوارس الإبداع التي أطلقها خالد زارع، تفجرت في أحد جنبات نفسه شعرا، ارتكز على ثقافة لغوية لم تخدم عمله الإذاعي فقط، بل تخطت ذلك لتثمر عن نصوص غنائية تغنى بها عدد من الفنانين من جيل الستينات.

ولم يكن التعاون الكبير بين خالد زارع وصوت الأرض طلال مداح في أكثر من عمل غنائي، إلا نتيجة التوأمة التي ربطت الإثنين بحسب تعبير السبيعي «النصوص الشعرية عند خالد زارع مطبوعة ببصمة اجتماعية مميزة»، وقدم الزارع الأغنية الإجتماعية في أكثر مناسبة، وربما كانت من أشهر الأغنيات التي تغنى بها طلال مداح له «سهرانين»، والتي كانت ثمرة خلاف مع والده حاول فيها طلب السماح من خلال لغة الهجر والوصل، والتي كشفت كما أوضح السبيعي «قدرة كبيرة على مخيلة الزارع»، كانت بداياته مع الشعر ومن خلال الوالد مدرس اللغة العربية، والذي ترك بصماته واضحة وجلية على الثقافة اللغوية التي امتاز بها الزارع، وسعى لتوريثها لأبنائه من خلال حرصه على انتقاء أسمائهم، التي قطفها من حقول زهر «خزام» ندي، انتشى بقطرات «ريهام» المطر الخفيف.

ورحلة الألف ميل لم تقف عند هذا الحد، بل لا زالت تواصل عطاءها من خلال مايكرفون الإذاعة، محطة العشق الأولى حيث الخفقة الوليدة، وهذه المرة من خلال مرايا البرنامج الإذاعي الذي يبث أسبوعيا، عبر أثير البرنامج الثاني، وعاشق الإذاعة الذي يصارع الموت بالحياة، من خلال حس أدائي عال بشخصيته الكاريزمية، وصفها السبيعي «شخصية تتآلف مع الآخرين وتتداخل في نسيج حياتهم»، ابن البحر المرتبط بالمكان والروشان، الذي يشده الحنين لطفولة كانت تنام على أريكة، فوق سطوح البيت الينبعاوي، تأسره صور من حي البحر في جدة القديمة، معتقة في ذاكرته برائحة البحر، الذي رسم حضور خالد زارع القوي، والإبتسامة التي لا تغادره حتى وإن غادرها، من خلال حس النكتة وخفة الظل التي يمتلكها.