الاجتهاد «الجماعي» أول الطريق

سعيد بنسعيد العلوي *

TT

سعينا في الحلقات السابقة إلى الدفاع عن فكرة فحواها أن التجديد في الدين على الوجه الذي نقدر أن زماننا المعاصر يقتضيه وأن الرغبة في الانتماء إلى عالم الحداثة (بكل إمكاناته ومكوناته) مع الإخلاص للإسلام عقيدة وشريعة وحضارة .. هذا الوجه من الفهم لا يستقيم إلا في مشروع كلي شامل.

مشروع يتسع ليشمل السياسة، والمجتمع، والاقتصاد، والتعليم برامج ومحتوى وأساتذة، مثلما يتصل بجوانب الإعلام والثقافة والبحث في العلوم الشرعية. ونحسب أن الاستنتاج المنطقي الذي نرى أننا ننتهي إليه من تصفح جوانب من الوجود الإسلامي اليوم هو التقرير بأن الإعداد الحق لمشروع التجديد الديني على النحو الذي نذكر ليس مما يكون للفرد الواحد ولا للنخبة الصغيرة المنعزلة بل إنه لا يعقل إلا في عمل جماعي ولا يتصور خارجاً عن اجتهاد جماعي. فالاجتهاد الجماعي هو الدرب الذي يجعلنا على مشارف تجديد في الدين أو لنقل إنه المناخ الضروري، والفضاء اللازم، لانبثاق ثم تبلور هذا المشروع الكلي الشامل الذي حاولنا أن نبين، بكيفيات مختلفة، أنه شرط التجديد الديني ـ شرطه الضروري والكافي كما يقول المناطقة. ونريد اليوم، اختتاماً لهذه الأحاديث في موضوع التجديد الديني في عالمنا المعاصر، أن نقف وقفة تساؤل وفحص لمفهوم «الاجتهاد الجماعي» هذا، بل لعلنا نسهم بمسودة اقتراحات عساها تغدو أكثر معقولية وتماسكاً في فرصة مقبلة.

نعلم أن الاجتهاد يعني إعمال العقل الفقهي فيما لم يرد فيه من المشكلات نص قاطع من الكتاب أو السنة ولم يقم عليه إجماع من سلف الأمة، إذ هو لا يتعلق إلا بما كان طارئاً جديداً، فهو يستدعي جواب الشرع. والاجتهاد يعني «استفراغ الجهد والطاقة» كما يقول علماء أصول الفقه.

وهذا الجهد المضني هو بطبيعته جهد فردي، ما دام يتعلق بالشخص الذي يعمل نظره الفقهي في المسألة المطروحة أمامه، وحيث انه كذلك فنحن نجد بين الأصوليين اختلافاً حول ما إذا كان الاجتهاد ملزماً للمجتهد بمفرده أم أنه يلزم كذلك غيره من الفقهاء القادرين على الاجتهاد وما إذا كان من الجائز للمجتهد أن يكون مقلداً لغيره أم لا. كما نلاحظ أن الشخص الذي يستفتي عالماً في نازلة يظل محتفظاً بحقه «الشرعي» في طلب جواب الشرع من عالم آخر، بل نجد أن طالب الفتوى يجيز لنفسه، أحياناً، أن يفاضل بين الأجوبة قبل أن يقرر أياً منها يختار أو أن يعرض الأجوبة المتوافرة لديه على عالم رابع أو خامس ويطوقه بمسؤولية تقديم الجواب الأكثر مناسبة ووقوعاً على مقصد الشارع. ولسنا نريد أن نتسع في هذه المسألة التي نقدر أنها معلومة، ولكننا ننتهي إلى القول بأن الاجتهاد الفقهي هو، أولاً وأساساً، عمل فردي ومسؤولية فردية، ولذلك كان كبار العلماء في الإسلام يتورعون من إصدار الفتاوى بسهولة، بل وكان الفقيه، مع الشهادة له بقدرته على الفتيا، يتنصل من الإجابة ما دام يقدر أن في المدينة من هو أعلم منه.

السؤال الذي نود طرحه اليوم نسوقه على النحو التالي: هل من الممكن للاجتهاد في عالمنا المعاصر أن يكون اجتهاداً فردياً ؟ وبعبارة أخرى: هل في الإمكان الاطمئنان إلى جواب شرعي يكون مجموع اجتهادات فردية، وثمرة إعمال النظر الفقهي من الفقيه المجتهد يكون ملزماً له، أولاً وأساساً بمفرده؟ (المجتهد/ المقلد).

أما رأينا المتواضع فهو أن الجواب لا يحتمل الإيجاب مطلقاً، وليس له أن يكون إلا نفياً وسلباً. وأما التعليل فهو أن المعلوم وأصناف المعارف بلغت من التفرع والتخصص ما لم يعد في إمكان شخص واحد أن يحيط بكليات تلك المعارف، فما بالك بجزئيات، بل إنه ليس في مكنة فرد واحد أن يحصى، مجرد إحصاء، أنواع المعارف ومجالات الدرس والبحث وهذا من جهة أولى.

أما من جهة ثانية، فلا يعزب عن فطنة اللبيب أن مقتضيات الوجود الإنساني المعاصر تجعل المرء، يومياً، أمام مشكلات وقضايا تتصل بجوانب عديدة، متداخلة، من شؤون الاجتماع والاقتصاد وتتعلق بما يقوم بين الناس من علاقات. فإذا انتبهنا، بجانب ما نبهنا عليه، إلى حال المسلمين في عالم اليوم فإننا نجد ذلك التداخل بين المشكلات الاقتصادية والقضايا الاجتماعية قد أصبح أكثر تشابكاً واختلاطاً ـ مشكلات تجعل المسلم، بصفة مستمرة، أمام تحدٍ سافر قوامه الإمساك بالدين والالتزام بأحكامه وأوامره مع الانتساب، بقوة الضرورة وضغط الواقع، إلى العالم المادي والثقافي الذي هو العالم المعاصر، أي العالم الفعلي المحسوس. والحق أن المسلم الحريص على دينه يكون في حال ينطبق عليه التشبيه النبوي القوي: الحريص على دينه مثل القابض على الجمر. كما أن ذلك المسلم يستحضر حديث الغربة والغرباء: بدأ هذا الدين غريباً وسيعود غريباً فطوبى للغرباء. تستدعي الحياة المعاصرة (عند الحريص على دينه والمؤمن بإمكان الجمع السعيد بين الإسلام والحداثة) أحكاماً جديدة يمليها الوجود العيني الحالي بزخمه وسرعة تطوره وتلاحق أحداثه. وإن الحاكم (في لغة الأصوليين، أي المجتهد أو القاضي، أو المفتي معاً) في حال لا يملك معها إما أن يجد من الشرع حكماً لا يتعارض مع وجوده الفعلي في العالم الفعلي وإما أن يسلم بعجز الشرع عن المتابعة والمواءمة تلك. إن هذا الحاكم لا يملك اليوم، وليس له ذلك، أن يكود فرداً. نعم، أتى على القاضي زمان كان في إمكانه، أمام « النازلة» في الشأن التجاري أو المالي (أو في الأحوال التي تتصل بالمعاملات عموماً ـ وببعض قضايا تتصل بالعبادات أحياناً قليلة.. مثل القول في مواقيت الصلاة عند ساكن القطب الشمالي، أو الموجود في البلاد التي تعرف نهاراً أو ليلاً يتصل كل منها أربعاً وعشرين ساعة) ـ كان في إمكانه أن يطلب رأي الطبيب والمهندس والخبراء (وهم «أرباب البصر» في لغة الفقهاء). ولكن الشأن في يومنا هذا آخر، إذ يتعلق الأمر بالحياة الاجتماعية والاقتصادية ، بل والسياسية أيضاً. فهو يستدعي جموعاً عامة تضم، بجانب الفقيه، العالم لا في مجالات الاقتصاد والطب والهندسة فحسب، بل في ميادين الاجتماع، والأنثربولوجيا، وعلم النفس، والإعلام ومجالات الثقافة المختلفة ، جموعاً عامة تنظر في القضية الواحدة، في «النازلة»، نظراً يكون فيه الاختلاف والجدل، وتكون الموافقة من جهة والاعتراض من جهة أخرى.. ولكن الشرع ينتهي، متى خلصت النوايا وصدقت العزائم، إلى الوقوع على الحل.. والحل لا يمكن أن يكون، من جهة الشرع وبموجب أحكام، إلا حيث تكمن المصلحة الفعلية لأهل الإسلام وذاك معنى القاعدة الأصولية الشهيرة «حيثما كانت المصلحة فثم شرع الله».

نتحدث عن «جموع عامة» ينظر فيها في القضية الواحدة وليس عن «جمع عام» يضم ممثلي المسلمين جميعهم.

نقول ذلك، ونؤكده، تقديراً منا بأن الحديث المسؤول، ذاك الذي يريد الانتهاء إلى حَلٍّ عملي وفعلي ملزم، يستدعي أخذ التباين والاختلاف بين المسلمين في الأقطار المختلفة، أخذه بعين الاعتبار. فلكل بلد مقتضياته ومعطياته المحلية وبالتالي أسئلته النوعية التي تتطلب حلولاً نوعية. لذلك فنحن نرى، على سبيل المثال، أن دعوة البعض إلى فقه يخص الفرنسيين المسلمين في قضايا جزئية محددة، لا تخلو من واقعية وجدية. مثلما نجد منا الشجاعة للقول بأن ما يتقرر في الجموع العامة (الدولية) الفقهية يظل، في الأغلب الأعم من الأحوال، حبراً على ورق، فأهل كل بلد يتصرفون، في نهاية الأمر، بموجب المعطيات المحلية لكل بلد (معطيات تتصل بالسياسة، وبالاقتصاد، وبالاختيارات المذهبية). كما نجد منا الشجاعة لكي نضيف إلى القول السابق إن تلك الجموع، في عدم مراعاتها لعلوم ومعارف معاصرة، ومن ثم في غفلتها عن إشراك العلماء والخبراء من أصناف المعارف المختلفة في مناقشة القضايا التي تتصل بالوجود العيني والاكتفاء بما يقرره الفقهاء وحدهم (مع طلبهم، حيناً قليلاً، رأي الطبيب أو المهندس...).. إذ تستمر في النظر إلى الأمور على هذا النحو.. فهي تجعل نفسها، عملياً، في حال الابتعاد عن الواقع العيني، فتبني بينها وبين الانتساب إلى عالم الحداثة (وهل يملك أحد أن يكون، فعلاً، غير منتسب إليه) جداراً عالياً، وتقيم بينها وبين ذلك العالم حجاباً عازلاً، فتقضي بتكريس ثنائية مرفوضة قوامها الإسلام في جانب أول والحداثة في جانب ثانٍ.

« الاجتهاد الجماعي»، وكيفيته، وإمكاناته، ومنهجيته، يقتضي من وجهة نظرنا، إرادة صادقة في هذا الذي نقول عنه إنه المواءمة السعيدة بين الإسلام والحداثة. ولكنه يقتضي، مع ذلك، تصديقاً لحديث التجديد في الدين ولزومه وجدواه.

* كاتب مغربي متخصص في الفكر الإسلامي