بين الدين والدولة فـي الوطـن العـربي

رضوان السيد

TT

ما عرف تاريخنا الحديث، وربما القديم أيضاً، حقبةً سادها صراعٌ كبير بين الدين والدولة في مجالنا الثقافي والسياسي، يُشبهُ ما تشهدُهُ الحقبةُ الحالية. وقد يكون من المناسب، من الناحية التاريخية، اعتبار اغتيال الشيخ حسن البنا، من جانب البوليس السياسي المصري عام 1949 انفجاراً لهذا الصراع، كما أنّ اغتيال الرئيس أنور السادات من جانب حركة الجهاد عام 1981 إحدى ذُرى ذاك الصراع.

وبين هذين التاريخين، اتّسعت الخصومة وتفاقمت، وتجاوزت الوطن العربي إلى العالم الإسلامي، وتعددت وجوهُها وخطاباتُها، وما عادت مقتصرةً على تبادُل الضربات بين الإسلاميين والأنظمة السياسية; بل كشفت المُنازعات عن صراعاتٍ بين الإسلاميين والتقليديين، والإسلاميين والإصلاحيين، والإسلاميين والعلمانيين، أي أنها تجاوزت البيئات السياسية إلى البيئات الثقافية، حيث تكمن المرجعية العميقة للإسلام، والشرعية العميقة للاجتماع الإسلامي. وتجاوز هذا الصراعُ الأجواء الداخلية في العالمين العربي والإسلامي منذ زمنٍ طويل، وأبرزُ ظواهر ذلك وميادينه الحرب الأفغانية، والتي دخل من خلالها الإسلاميون إلى المسرح الدولي، وبلغوا قلب ذاك المسرح في أحداث 11 سبتمبر 2001، حيث أُعلن الإسلامُ باعتباره مشكلةً عالمية.

ويتحدث الجميعُ منذ ذلك الحين عن الحرب على الإرهاب والتطرف الإسلامي، لكنّ جوانب ثقافيةً وعسكريةً عديدةً تتخطَّى جماعات التطرف والعنف لتنالَ من الإسلام نفسه تارةً، ومن المسلمين تارةً أخرى.

في الحالة الأولى يقال إنّ الأصولية المُفْضية إلى العنف هي جزءٌ من طبيعة الإسـلام. وفي الحالة الثانية يقال إنّ الإسـلامَ براءٌ من هؤلاء المتشددين، والإرهابيين. لكنّ النتيجةَ في الحالتين واحدة. وتختلف الرؤى والآراء في ظاهرة الأصولية العنيفة في الحاضر العربي والإسلامي، وفي أسباب اصطدامِها بالدول والأنظمة السياسية لدى العرب والمسلمين بالذات. ثم لماذا حوَّلت الصراع إلى صراعٍ عالمي باستهداف الولايات المتحدة بشكلٍ مباشر، ثم الأنظمة الغربية الأُخرى. وإذا كانت العَلِلُ والأسبابُ موضعَ خلافٍ، فموضعُ الخلاف الأكبر هذه الرؤى والاعتقادات التي تحكم علائق الجماعات الإسلامية وتصرفاتها إزاء الأطياف الأخرى في المشهد الداخلي، وإزاء الأنظمة السياسية، وإزاء العالم . ولذلك رأيتُ من المفيد أن أعرض(ابتداء من هذه الحلقة)ِ للخطابات الحاضرة والوقائع في المشهد الإسلامي اليوم، وما تعبّرُ عنه من توجهاتٍ تجاه الجهات الثلاث: القوى الاجتماعية المختلفة، والنظام السياسي، والعالم المعاصر. وكنتُ قد درسْتُ بعضَ ظواهر ومظاهر الخطابات الإسلامية المعاصرة في كتابيَّ: سياسيات الإسلام المعاصر (1997)، والصراع على الإسلام (2004) تحت عنوان: «رؤية العالم»، وهو مصطَلحٌ فلسفيٌّ يؤدّي ما يؤدّيه مصطلح الخطاب، لكنه أكثر شموليةً وتعبيراً عن توجهاتٍ جمعية أو حزبية، وليس أفراد المفكّرين وحسْب.

وليس بالوسع طبعاً عرض تفصيلات الرؤى المختلفة; ولذلك فسنركّز على مؤدَّيات تلك الخطابات والرؤى والوقائع في ما يتعلق بمشكلتين أساسيتين: الرؤية إلى علاقة الدين بالدولة، والرؤية إلى العلاقة بالعالم المعاصر. ومع أنهما النقطتان الأكثر تفجراً اليوم; فقد لا تكونان الأهم غداً; بل ربما كانت البدائل المقترحةُ هي الأجدى في ما نحن بسبيله; لكنها ليست حاضرةً بحيث تصلُ إلى أُفُق المشروع، وبحيث تُصبح دراستُها ممكنة. ومع ذلك فستكون حاضرةً في المعالجة باعتبار ذلك جزءًا من الرؤية أو الخطاب. وتبقى مسألةٌ أخرى تستحقُّ الذكر. فالذين نريدُ فحصَ خطاباتهم هم العاملون في مجال الفكر الإسلامي أو العمل الإسلامي، والذين يرون في الإسلام بشكلٍ عامٍ مرجعيةً للمجتمع والدولة، على الاختلاف في معنى ذلك ونتائجه.

يتجنبُ الإسلاميون الإحيائيون والحزبيون، أكثر من دُعاة الإصلاح والتجديد الاصطدام، بالمؤسسات الدينية القائمة على التعليم أو الفتوى أو البحوث العامة. لكنّ الطرفين الإحيائي والإصلاحي شديدا الاختلاف مع مَنْ يسمُّونهم التقليديين أو الجامدين أو ما شابه. وهذا الأمر ليس جديداً، بل يعود إلى أيام الإمام محمد عبده، الذي كانت علاقاتُهُ بالأزهر متوتّرة. والمعروف أنّ تلميذه السيد محمد رشيد رضا، السلفي التوجُّه، جمع مقالاتِه في المطالبة بإصلاح الأزهر والتي سبق له نشرها بمجلة «المنار» في مجلدٍ ضخم سمّاه: المنار والأزهر. بيد أنّ التقليديين الذين يتحدثُ عنهم الإصلاحيون والسلفيون والإحيائيون من رجالات المذاهب الأربعة، ما عادوا موجودين منذ مدة. فقد تدخلت الدولُ للتجديد في المؤسسات الدينية، وأخذت بالكثير من مقترحات الإصلاحيين. كما أنّ هناك خطاً طويلاً من شيوخ المؤسسات الدينية الإسلامية ، ساروا في نهج الإصلاح والمصالحة مع العصر والمستجدات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. بل إنّ شيوخ المؤسسات التعليمية ومؤسسات الفتوى، أقلُّ تأكيداً على مذهبيتهم وتحديداً للَونهم الخاصّ اليومَ من الإسلاميين الآخرين; سواءٌ أكانوا حزبيين أم إصلاحيين. ولا يقتصر الأمرُ بالنسبة لهم على رجالات المؤسسات الدينية بالأزهر والزيتونة والقرويين، ومؤسسات البحوث والفتوى والمجامع; بل هناك كثيرٌ من خريجي الجامعات الإسلامية ممن يعملون في مجالاتٍ أُخرى لا علاقةَ مباشرةً لها بالتعليم في تلك المؤسسات أو بالفتوى فيها; لكنهم يشتركون مع شيوخ المؤسسات في رسم المشهد العام للتقليد الإسلامي.