الإصلاح.. والمصالحة

الإحيائيون الإسلاميون.. صون الهوية ونزعة التطهر.. والمماحكات

TT

خطاب «التلاؤم» الذي كان شديد التوتُّر دائماً، يوشكُ أن يتحطَّم أو يصبح مستحيل الإنجاز وسط الظروف الجديدة التي تزداد راديكاليةً كلَّ يوم، والتي تدفعُ باتجاهاتٍ متناقضة. وبين رجالات المؤسسات الدينية مَنْ يُصرُّ على مهمته التعليمية والتوجيهية لا غير، وهؤلاء هم العصبُ الصلبُ الباقي ـ في حين يتشدد آخرون إظهاراً للحيادية، واقتراباً من جماهيرية الإسلاميين الحزبيين ـ ويذهب فريقٌ ثالثٌ باتجاه التصوف الذي يشهد حيويةً جديدةً أيضاً، أو باتجاه شعبويات وسائل الإعلام. وفي كل الأحوال، ما عادت المؤسسةُ قائمةً إلاّ في مجال التعليم الديني; وهذا مجالٌ ليس قليل الشأن على أي حال، وسط حيرة الجمهور بينها وبين وسائل وأدوات التربية والتعليـم ومؤسسات التحشيد لدى الإسلاميين الحزبيين وغير الحزبيين. وإذا كانت لإشكالية خطاب أبناء المؤسسة الدينية القدرة على التلاؤم; فإنّ إشكالية خطاب الإحيائية الإسلامية: صَون الهوية من طريق النزوع الطهوري، واصطناع الأدوات والوسائل القادرة على تحقيق ذلك. وقد ظهر الخطابُ الإحيائي الإسلامي أو اتجه للتنظيم في النصف الثاني من عشرينيات القرن العشرين، في خضمّ أزمة إلغاء الخلافة عام 1924. ففي ذلك الوقت تكاتفت عدة عوامل وظواهر باعثة على التهيُّب والخوف: سقوط الدولة العثمانية، واحتلال باقي ديار الإسلام، وإلغاء الخلافة، وظهور المشروعات المحلية والتقسيمية، وتكون الدول الوطنية المُحايدة إزاء الإسلام أو المتحزبة ضدَّه. وقد بذل التقليديون والإصلاحيون قُصارى جَهدهم لمواجهة تحدي إلغاء الخلافة، ومحاولة إيجاد مرجعية بديلة. وتبلورت تلك الجهود بعقد المؤتمرات تارةً بمعاونة السلطات المصرية وطوراً بمعاونة السلطات السعودية; فضلاً عن استمرار الهاشميين المطرودين من الحجاز في الاهتمام بمسألة الخلافة التي تسمَّى بها رائدُهم الشريف حسين أحياناً، وقبل العام 1924. بيد أنّ تلك المؤتمرات فشلت بسبب الصراع بين الأنظمة العربية على ولاية الأمر (الديني) بعد العثمانيين من جهة، ومُعارضة البريطانيين والفرنسيين لتجديد الخلافة من جهةٍ ثانية. وقد زاد الإحساس بالإحباط والعجز من اندفاع العناصر الساخطة على عجز التقليديين، وتغرب الإصلاحيين ـ بإنشاء جماعات الهوية وتنظيماتها وآلياتها; فكانت جماعة الشبان المسلمين، والإخوان المسلمين، وأنصار السنة، والجمعية الشرعية واتحاد الشبيبة الإسلامية في بلاد الشام، وشباب محمد بالعراق، والجماعة الإسلامية بالهند، وجماعة الخلافة بالهند ثم بإندونيسيا. وما بدا أولاً نوعا من الانشقاق الاحتجاجي، ما لبث أن تطور إلى حركةٍ عامةٍ سُمّيت بالصحوة الإسلامية. وقد كانت هذه الجمعيات والحركات في البداية ذات طابعٍ عَقَدي وتربوي، وليست لها اهتماماتٌ سياسيةٌ بارزة. وبسبب اهتماماتها بالقضايا المباشرة للناس ذات الطابع الاجتماعي والثقافي; فقد حظيت بشعبيةٍ واسعةٍ، غذَّتها قدرتُها على استخدام الرموز الدينية في حشد الناس وكسب تأييدهم وخَرْطهم في نشاطاتٍ شعائريةٍ وتربويةٍ ورياضيةٍ، تُعطي الشبان أملاً وثقةً وإطاراً تنظيمياً ما عرفه المسلمون تقليدياً إلاّ لدى مؤسسات الدولة أو الطُرُق الصوفية. ويتضح من رسائل حسن البنا وكلماته وخطاباته في المؤتمرات والاجتماعات (1934 ـ 1945) ، كما من كتابات رائد الجماعة الإسلامية بباكستان أبو الأعلى المودودي (1941 ـ 1950) أنه ما كان لدى زعامات تلك الحركات خطابٌ متماسكٌ في المراحل المبكرة إلاّ في مسـألتين: مكافحة التغرب والوجود الثقافي والسياسي للغرب في ديار الإسلام، وتربية المسلمين تربيةً أخرى بعيداً عن موجات التبشير والتذويب والحزبيات الحديثة. وقد كان يمكن لهاتين الحركتين وأمثالهما التراجع أو التحول إلى الطابع الخيري أو الصوفي لولا خطاب الهوية الطهوري القوي الذي كان يسودُ فيها والجماهيرية الواسعة التي حظيت بها، ثم لحظة الاختبار الحاسم التي تعرضت لها: الجماعة الإسلامية تعرضت لاختبار إنشاء دولة باكستان الإسلامية عام 1947، والإخوان المسلمون تعرضوا لاغتيال زعيمهم حسن البنا عام 1949. كان المفروض أن تُسارع الجماعةُ الإسلامية لدعم فكرة باكستان الإسلامية، لقولها بخصوصية الإسلام وطهوريته. لكنها وقفت حائرةً بسبب الانقسام الذي خلّفه إنشاء الدولة المنفصـلة في صفوف المسلمين أنفسهم. فقد بقي ثُلثُ المسلمين تحت السيطرة الهندية، كما أنّ النخبة العلمانية التي أنشأت باكستان كانت تريدُها دولةً وطنيةً يلعبُ الإسلامُ فيها دورَ القومية الموحِّدة. ولأنَّ المودودي كان ضدَّ الأمرين; فقد اندفع باتجاه النظرية التي تدمجُ الدين بالدولة أو تقيمُ الدولة على الدين، والتي سمَّاها في ما بعد بالحاكمية. وفي الوقت الذي كان فيه القانونيون في الدولة الجديدة منهمكين في محاولة إصدار دستورٍ إسلامي للدولة الجديدة فشِلوا فيها في النهاية; قام المودودي بكتابة الدستور الإسلامي الأول الذي يُحدّد النظام السياسيَّ الإسلاميَّ بأنه ثيو/ديمقراطي; أي حاكمية إلهية على مستوى المرجعية العليا، وتدبيرية شعبية على مستوى القضايا العامة المتصلة بحياة الناس اليومية. وظلّت جماعة المودودي الإسلامية حتى وفاته عام 1979 الحـزب الإسلامي الرئيسي والمُعارض بالبلاد، ودخل هو السجن عدة مرات وما استطاع الحزب الحصول على مقاعد معتبرة في البرلمانات المتعاقبة، وسالم حكم ضياء الحقّ العسكري وعاد إلى مماحكة سائر الحكومات حتى اليوم.