النائيني.. تنبيه إلى الديمقراطية

TT

قد يأخذ العجب إذا نظرنا في أحوال المنطقة في مطلع القرن العشرين، أي العام 1909، وهو عام نشر رسالة الشيح محمد حسين النائيني (توفي 1936) «تنبيه الأمة وتنزيه الملة» بالنجف، العجب من المفارقة بين واقع تسوده العشائرية، لم يسمع أهلوه بمفردة ديمقراطية أو دستور، بل ان أوروبا نفسها كانت تحبو نحو الديمقراطية، وتمنع النساء من المشاركة في الانتخابات. من هنا تقاس انتباهة هذا الشيخ، الذي يستحق أن يلحق لرسالته هذه بشيوخ التنوير مثل: عبد الرحمن الكواكبي ومحمد عبدة.

عرف الشيخ محمد بن حسين بن عبد الرحيم بالنائيني نسبة إلى مسقط رأسه نائين من البلاد الإيرانية، وعرف بالنجفي لدراسته بالنجف وإقامته فيها. وكان من تلامذته الآيات الكبار، فيما بعد، الخوئي، وشريعتمداري، والمرعشي وغيرهم.

وما هي إلا سنتان على إعلان ثورة المشروطة وتحقيق الدستور بإيران حتى أعلن ببغداد الدستور العثماني تموز 1908، وكتبت عبارة بالتركية على واجهة سراي الحكومة تقول: «حريَّتْ عدالَتْ مساواتْ أخوَّتْ» (العلاف، بغداد القديمة). وبالوقت الذي استبشر مسلمون بالمشروطة اجتمع مسلمون آخرون وألفوا جمعية مناهضة للدستور باسم «المشور»، وحسب رأيهم كانت جمعيتهم دفاعاً عن الشريعة، ومقاومة الأفكار اللادينية، وكان في مقدمة المعترضين عليها أول رئيس وزراء عراقي هو عبد الرحمن النقيب، قبل أن يقنعه الإنكليز والملك فيصل الاول بقبول الديمقراطية. لكن شيخ الإسلام، وهو فقيه الدولة العثمانية الرسمي، حث السلطان عبد الحميد، أثناء انعقاد مجلس الدولة، على تحقيق مطلب إعادة الدستور، بالقول: «أجبهم إلى رغائبهم وأمنح الدستور فإنه مطابق للشرع الشريف». يومها ألقى الشاعر معروف الرصافي، وسط حشد من البغداديين، فرحاً بإعلان الدستور أمام سراي الحكومة، قصيدة منها:

إذا انقضى مارت فأكسر الكوزا وأحفل بتموز إن أدركت تموزا شهر به الناس قد أضحت محررة من رق مَنْ كان يقفوا أثر جنكيزا سـل أهل باريز عن تموز تلق لهم يوماً به كان مشهـوداً لبـاريزا كانت أطروحة «تنبيه الأمة وتنـزيه الملة» شاهداً قوياً على تطور الفكر الديني لاستيعاب المستجدات، فكان مؤيدوها من كبار الزعامة الدينية، منهم محمد كاظم الخراساني (ت 1911)، ورأيه فيها: «أجل من أن تمجد، وحري أن تكون دراستها وتدريسها سبيلاً إلى إدراك أُصول المشروطية مستمدة من الشريعة الحقة» (سيف، ضد الاستبداد)، وقال فيها الشيخ عبد الله المازندراني: «كافية لتعزيز اعتقاد المسلمين وتصديقهم وجدانياً». من النقاط الهامة التي أثارتها أطروحة النائيني أنها رفعت الحرج من التأثر بغير المسلم في موضوعة السياسة أو الاقتصاد، والحرج من قبول فكرة النقص في أي فكر، وأن لا فكر يمثل لوحده الحل الأمثل للبشر.

وهذا ما أشار إليه آية الله أبو الحسن محمد الطالقاني (ت 1979) في مقدمته لإحدى طبعات الأطروحة المتأخرة، قال: «لم تتبلور فكرة الحكم الدستوري في قطر إسلامي، بل وفد علينا من الخارج، فوجدها علماء المسلمين مفيدة فتبنوها وتقدموا الصفوف الداعية إلى إقامتها، وأصدر بعضهم فتوى بوجوب تأييدها، كما تقدم آخرون صفوف الجهاد من أجلها». وضع النائيني في «تنبيه الأمة» أطروحة في الديمقراطية بشروط إسلامية، منطلقاً من تحرير الإنسان من الاستبداد. غير أن صاحب النظرية تراجع أثناء حدة الخلاف. وحسب علي الوردي، الذي سمى كتاب النائيني بـ«تنبيه الأمة في وجوب المشروطة» فإن مؤلفه خوفاً من نفور المقلدين من آرائه الجريئة، بعد أن صار من المراجع الكبار، حاول منع نشر نصه العربي في مجلة «العرفان» العام 1929، فأوعز «إلى حاشيته بشراء جميع نسخ المجلة التي وردت إلى العراق لكي لا تصل إلى أيدي القراء».

* باحث عراقي