تهجد الصائمين

د. عائض القرني

TT

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه وبعد.

?يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً? (المزمل: 1 ـ 4 ). هكذا قال ـ سبحانه وتعالى ـ لرسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولقد امتثل الحبيب ـ عليه الصلاة والسلام ـ أمر ربه، وأطال في القيام، وبكى وأطال في البكاء، وخشع وأطال في الخشوع. يقول ـ عز وجل ـ لرسوله ومصطفاه: ?وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً? (الإسراء: 79). مثل قيامك في ليالي الدنيا يكون قيامك المحمود يوم القيامة. رمضان شهر الصيام والقيام، وأحلى الليالي وأغلى الساعات يوم يقوم الصُّوَّام في جنح الظلام.

* قلت للّيل هل بجوفك سر - عامر بالحديث والأسرار

* قال لم ألقَ في حياتي حديثاً - كحديث الأحباب في الأسحار.

ليل الصائمين قصير؛ لأنه لذيذ، وليل العابثين طويل؛ لأنه سقيم.

* فقصارهنّ من الهموم طويلة - وطوالهنّ مع السرور قصار.

وصف الله الصالحين من عباده فقال: ?كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ? (الذاريات: 17). فليلهم من أحسن الليل. ووصفهم في السحر فقال: ?وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ? (الذاريات:18 ). وقال: ?وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأسْحَارِ? (آل عمران: من الآية 17)، فأسحارهم من أجمل الأسحار:

* يا ليلة الجزع هلا عُدتِ ثانيةً - سقى زمانَك هطّالٌ من الدِّيَم

* أمسيت في نشوة التوفيق يقلقني - طلوع فجر بدا من عالي العلَم.

كان المهاجرون والأنصار إذا أظلم عليهم الليل سُمع لهم نشيج بالبكاء، وإذا أسفر الصباح فإذا هم الأسود إقداماً وشجاعة:

* في الليل رهبان وعند لقائهم - لعدوّهم من أشجع الشجعان.

كانت بيوت المهاجرين والأنصار في ظلام الليل مدارس تلاوة، وجامعات تربية، ومعاهد إيمان، فما لبيوت كثير من الناس اليوم أصبحت مسرحاً للّهو واللغو؟

فلما فقدنا قيام الليل قست قلوبنا، وجفت دموعنا، وضعف إيماننا.

صحّ عنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ أنه قال: «من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه»، مما يعين على قيام الليل تذكر ذاك القيام المهول؛ يوم يقوم الناس لرب العالمين، يوم يُبعثَر ما في القبور، ويُحصَّل ما في الصدور.

ومما يعين على قيام الليل تذكر ظلمة القبر ووحشة القبر، وهمّ القبر؛ فقيام الليل نور لظلمة القبور. ومما يعين على قيام الليل تذكُّر الأجر والمثوبة، والعفو عن الخطيئة والذنب.

تفنّن السلف في قيام الليل، فمنهم من أمضى الليل راكعاً، ومنهم من قطعه ساجداً، ومنهم من أذهبه قائماً، منهم التالي الباكي، ومنهم الذاكر المتأمِّل، ومنهم الشاكر المعتبِر. لماذا أقفرت بيوتنا من قيام الليل؟ لماذا خوت من التلاوة؟ لماذا شكت منازلنا من قِلة المتهجدين؟

* أيا دار سلمى كنت أول منزل - نزلنا به والركب ضبحت بلابلُه

* نزلنا فلم نشهد به رفقةً مضت - فسال من الدمع المكتّم عاجلُه.

إذا أظلم الليل نامت قلوب الغافلين، وماتت أرواح اللاعبين، حينها تحيا القلوب المؤمنة، وتسهر العين الخائفة:

* كنْ كالصحابة في زهدٍ وفي ورعٍ - القوم هم ما لهم في الناس أشباهُ

* عُبّاد ليلٍ إذا جنّ الظلام بهم - كم عابد دمعه في الخدّ أجراهُ.

صحّ عنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ أنه قال لابن عمر: «يا عبد الله! لا تكن كفلان؛ كان يقوم الليل ثم ترك قيام الليل».