الرحمة في رمضان

TT

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه وبعد.

الرحمة فضلٌ من الله، يضعه في قلب من يشاء، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء.

والله رحمن رحيم، يحبّ الرحماء، ويدعو إلى الرحمة، ويأمر عباده أن يتواصوا بالصبر والمرحمة، وقدْ فقدَ الإنسانُ الرحمة لأسبابٍ كثيرةٍ منها: كثرة الذنوب والمعاصي؛ فإنّها ترين على القلب، حتى يعمى، ويصبح أشدّ قسوةً من الحجارة، قال تعالى عن بني إسرائيل: «ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً» (البقرة: من الآية 74).

وقال ـ سبحانه ـ عنهم لمّا أعرضوا وتمرّدوا على شرعه: «فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً» (النساء: من الآية 155). ومّما يُذهب الرحمةَ الطغيانُ بالمال، والتكبّر بالغنى. قال سبحانه: «كَلا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى«6» أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى». ويوم يهذب القلب بالإيمان والعمل الصالح يمتلئ رحمةً وحناناً.

ولعلّ من الأسباب في ضعف الرحمة كثرةُ الشبع، فإنه يورث الأشر والبطر، ولذلك جاء شهر الصيام ليكسر هذا الجموح، ويحطّم هذا التفلّت.

فالصائم من أرحم الناس؛ لأنه ذاق الجوع، ووجد الظمأ، وعاش المشقّة، فبدأت نفسه تتوق لرحمة المسلمين، والحنان إليهم، واللطف بهم.

إنّ الرحمة مطلوبةٌ من كل مسلم لأخيه المسلم، مطلوب من المسؤول الراعي أن يرحم رعيته، وأن يشفق عليهم، وأن يلين لهم. صحّ عنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ أنه قال: «اللهمّ من ولي من أمر أمّتي شيئاً فشَقّ عليهم فاشقُقْ عليه، ومن ولي من أمر أمّتي شيئاً فرفقَ بهم فارفقْ به».

وصحّ عنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ أنه قال: «من ولّاه الله أمراً من أمر أمّتي فاحتجب دون حاجتهم وخُلّتهم وفقرهم، احتجب الله دون حاجته وخُلّته وفقره يوم القيامة».

والرحمة تُطلب من العالم والأستاذ بطلّابه، فيرفق بهم، ويتوخى بهم أيسر السبل، وأحسن المسالك؛ ليحبّوه وينتفعوا بكلامه، فيجعل الله له أعظم الأجر وأجلّ المثوبة. واسمع لقوله ـ سبحانه ـ مادحاً رسوله ـ عليه الصلاة والسلام: «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ».(آل عمران: من الآية 159).

والرحمة تُطلب من الامام بالمأمومين، فلا يشقّ عليهم، ولا يدخل الضرر عليهم، بل يكون رفيقاً حكيماً، صحّ عنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ أنه قال: «من أمّ منكم بالناس فليخفّف؛ فإنّ فيهم الكبير والمريض والصغير وذا الحاجة».

أو كما قال ـ عليه الصلاة والسلام.

وصحّ عنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ أنه لمّا أطال معاذٌ بالناس قال له ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «أفتّانٌ أنت يا معاذ؟ أفتّانٌ أنت يا معاذ؟ أفتّانٌ أنت يا معاذ؟».

وصحّ عنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ أنه قال لعثمان بن أبي العاص الثقفي لما قال: يا رسول الله! اجعلني إمام قومي، قال: «أنت غمامهم، واقتدِ بأضعفهم، واتّخذْ مؤذّناً لا يأخذ على أذانه أجراً».

والرحمة مطلوبة من الداعية المسلم بالمدعوّين، فينصح لهم بلطف، ويبيّن لهم بشفقة، فلا يفضح، ولا يجرّح، ولا يشهّر بالناس، ولا يشنع بالعصاة على رؤوس الأشهاد. قال ـ عزّ وجلّ ـ موصياً موسى وهارون ـ عليهما السلام ـ في دعوتهما لفرعون الطاغية: «فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى» (طـه: من الآية 44)، وقال سبحانه: «ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» (النحل: من الآية 125).

* يقول الشافعي:

* تعمّدْني بنصحك في انفرادٍ - وجنّبْني النصيحةَ في الجماعهْ

* فإنّ النصحَ بينَ الناس نوعٌ - كما التوبيخ لا أرضى سماعهْ

* فإنْ خالفتَني وعصيتَ أمري - فلا تجزعْ إذا لم تُعطَ طاعهْ

* والرحمة مطلوبة من الوالد بأولاده، وقد سبق هذا في مقال «كيف نربي أطفالنا؟»، ورحمة الوالد والأم بالأطفال لها أعظم الأثر في إصلاحهم وفلاحهم وطاعتهم؛ فإن الصلف والغلظة باب شؤم، وقد صحّ عنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ أنه قال: «ما كان الرفق في شيءٍ إلا زانَه، وما نُزِع الرفق من شيءٍ إلا شانه».

يا صائماً جاع بطنه! إنّ آلاف البطون جوعى تنتظر لقمةً، فهل مِن مطعمٍ؟

يا صائماً ظمئت كبده! إنّ آلاف الأكباد ظمأى تنتظر جرعة من ماء، فهل مِن ساقٍ؟ يا صائماً لبس يرتدي أجمل اللباس! إن آلاف الناس في عري ينتظرون قطعة من قماش، فهل من كاسٍ؟

اللهمّ ارحمْنا رحمةً واسعةً تغفر بها الذنب، وتمحو بها الخطيئة، وتعفو بها عن الزلل.