الصائمون والوقت

د. عائض القرني

TT

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه وبعد.

فما أسرع انصرام العمر ومرور الأيام وتعاقب الليالي!

* دقّاتُ قلب المرء قائلةٌ له - إنّ الحياة دقائق وثوانِ

* فارفعْ لنفسك قبلَ موتك ذكرها - فالذّكر للإنسان عمرٌ ثانِ وصف الله جواب اللاعبين والمفرطين يوم القيامة، فقال تعالى: «قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ«112» قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ«113» قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إلا قَلِيلاً لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ«114» أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ«115» فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ».(سورة المؤمنون: الآيات من 112– 116). قال أحد الصالحين: العمر قصير، فلا تقصّرْه بالغفلة. وهذا حقّ؛ فإنّ الغفلة تقصّر الساعات، وتستهلك الليالي.

وصحّ عنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ أنه قال: «نعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس: الصحة والفراغ». فكثيرٌ من الناس صحيحٌ معافى فارغ، وعمره يمرّ أمامه لا يستفيد منه، ولا يستثمره. وقد صحّ عنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ أنه قال: «لا تزول قدما عبدٍ يومَ القيامة حتى يُسأل عن أربع، وذكر عمره فيما أبلاه».

العمر كنزٌ، من أنفقه في طاعة الله وجد كنزه يوم لا ينفع مالٌ ولا بنونَ إلا مَن أتى الله بقلبٍ سليم، ومَن أنفقه في الغفلة والمعاصي واللهو واللعب ندم ندامةً ما بعدها ندامة، وقال: يا حسرتنا على ما فرطنا فيها.

الليل والنهار مطيّتان تنقلان الإنسان إلى السعادة الأبدية أو إلى الخسران.

كان السلف الصالح يبادرون أنفاسهم في حفظ أوقاتهم، ولهم في ذلك قصصٌ عجيبةٌ، فمنهم من كان يقرأ القرآن وهو في سياق الموت، كالجنيد بن محمد، فقال له أبناؤه: أجهدتَ نفسَك، فقال: ومن أحقّ الناس بالإجهاد إلا أنا.

وكان الأسود بن يزيد التابعيّ يصلّي أكثرَ الليل، فقال له بعض أصحابه: لو ارتحت قليلاً، قال: الراحةَ أريد. يعني: الآخرة. وجلس سفيان الثوري في الحرم مع قومٍ يتحدّثون، فقام من بينهم فزعاً، وهو يقول: نجلس هنا، والنهار يعمل عمله.

ومن السّلف من قسم نهاره وليله إلى ساعات، فساعات صلاةٍ وتلاوةٍ وذكرٍ وتفكّر وطلبِ علمٍ وكسبٍ حلالٍ ونومٍ، لم يكن للّعب عندهم وقتٌ.

أما المتأخِّرون فأصيبوا بمصيبة ضياع الوقت إلا من رحم ربّك، كثرة نومٍ وبطالةٌ وغفلةٌ وشرودٌ وإسرافٌ في المباحات والملهيات، وجلساتٌ لا فائدة فيها، واجتماعاتٌ إن لم تكن معصيةً كانت طريقاً إلى المعصية وسبباً لها.

إن من أعظم ما ينظّم الوقت ويرتّب الأعمال الصلواتِ الخمس، يقول عزّ من قائل: «إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً» (النساء: من الآية103).

فبعد الفجر هو زمن الحفظ والتلاوة والذكر والتأمّل، ومن ارتفاع الشمس إلى الظهر هو وقت العمل والكسب والتجارة وطلب العلم والسعي في الأرض، وبعد صلاة الظهر ـ خاصة لطلبة العلم ـ هو وقت قراءة المجاميع العامة وكتب التاريخ، وبعد العصر هو زمن المكتبة والتحصيل الجادّ وتحقيق المسائل، وبعد المغرب لزيارة الإخوان واستقبال الأصحاب، وبعد صلاة العشاء للأهل، ثمّ للنّوم، فقيام آخر الليل، ويوم الخميس زمن نزهة وراحة مباحة، ويوم الجمعة يوم عبادة وتلاوة وذكر واستعداد للجمعة بغُسلٍ وسواكٍ وطِيبٍ ولباسٍ وتبكيرٍ.

وشهر رمضان مدرسةٌ لتنظيم وقت المسلم، واستثمار هذا الوقت فيما يقرّب من الله عزّ وجلّ.

الصائم في النهار متفرّغٌ للعبادة؛ إذ هو معافى من تهيئة الطعام وإعداده وتحضيره والتشاغل به، وهذه الأمور التي تأخذ وقتاً طويلاً، وقد توافر هذا الوقت للصائم، فزاده في وقت العبادة والعمل الصالح.

مِن الناس مَن لا يدري معنى الصيام، فهو في غفلةٍ كبرى، وفي سُباتٍ عميقٍ، قطع نهاره نوماً، وقطع ليله سفراً ضائعاً:

* يا مذهباً ساعاتِ عمرٍ ما لها - عوضٌ وليس لفوتها إرجاعُ

* أنفقتَ عمركَ في الخسار وإنّه - عملٌ ستأتي بعدَه أوجاعُ اللهمّ احفظْ علينا أعمارنا، وثبّتْ أقدامنا، واستعملْنا في طاعتك يا رب العالمين.