محمد صلى الله عليه وسلم زاهداً

د. عائض القرني

TT

كان زهده صلى الله عليه وسلم زهد من علم فناء الدنيا وسرعة زوالها وقلة زادها وقصر عمرها، وبقاء الآخرة وما أعدّه الله لأوليائه فيها من نعيم مقيم وأجر عظيم وخلود دائم، فرفض صلى الله عليه وسلم الأخذ من الدنيا إلا بقدر ما يسدّ الرمق ويقيم الأود، مع العلم أن الدنيا عرضت عليه وتزيّنت له وأقبلت إليه، ولو أراد أن تكون جبال الدنيا ذهباً وفضة لكانت، بل آثر الزهد والكفاف، فربما بات جائعاً ويمرّ الشهر لا توقد في بيته نار، ويقضي الأيام طاوياً لا يجد رديء التمر يسدّ به جوعه، وما شبع من خبز الشعير ثلاث ليال متواليات، وكان ينام على الحصير حتى أثّر في جنبه، وربط الحجر على بطنه من الجوع، وكان ربما عرف أصحابه أثر الجوع في وجهه عليه الصلاة والسلام.

وكان بيته من طين، متقارب الأطراف، داني السقف، وقد رهن درعه في ثلاثين صاعاً من شعير عند يهودي، وربما لبس إزاراً ورداء فحسب، وما أكل على خوان قط، وكان أصحابه ربما أرسلوا له الطعام لما يعلمون من حاجته إليه، كل ذلك إكراماً لنفسه عن أدران الدنيا، وتهذيباً لروحه وحفظاً لدينه ليبقى أجره كاملاً عند ربه، وليتحقق له وعد مولاه (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى(. فكان يقسم الأموال على الناس ثم لا يحوز منها درهماً واحداً، ويوزّع الإبل والبقر والغنم على الأصحاب والأتباع والمؤلفة قلوبهم ثم لا يستأثر بناقة ولا بقرة ولا شاة، بل يقول عليه الصلاة والسلام: «لو كان لي كعضاة ـ أي شجر ـ تهامة مالاً لقسمته ثم لا تجدوني بخيلاً ولا كذاباً ولا جباناً».

وراودته الجبال الشمّ من ذهب عن نفسه فأراها أيما شمم بل كان عليه الصلاة والسلام الأسوة العظمى في الإقبال على الآخرة وترك الدنيا وعدم الالتفات إليها أو الفرح بها أو جمعها أو التلذذ بطيباتها أو التنعم بخيراتها، فلم يبنِ قصراً، ولم يدّخر مالاً، ولم يكن له كنز ولا جنة يأكل منها، ولم يخلّف بستاناً ولا مزرعة، وهو القائل: «لا نورث، ما تركناه صدقة» وكان يدعو بقوله وفعله وحاله إلى الزهد في الدنيا والاستعداد للآخرة والعمل لها.

فانظر إليه صلى الله عليه وسلم وهو إمام المسلمين وقائد المؤمنين وأفضل الناس أجمعين يسكن في بيت طين وينام على حصير بالٍ ويكتفي بتمرات تقيم صلبه، وربما اكتفى باللبن.

بل خُيّر بين أن يكون ملكاً رسولاً أو عبداً رسولاً فاختار أن يكون عبداً رسولاً، يشبع يوماً ويجوع يوماً، حتى لقي الله عز وجل.

ومن زهده في الدنيا سخاؤه وجوده، فكان لا يردّ سائلاً ولا يحجب طالباً ولا يخيّب قاصداً، وأخبر أن الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة، وقال: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل» أخرجه البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما. ويروى عنه أنه قال: «ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس» وقال: «ما لي وللدنيا، إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل رجل قال في ظل شجرة ثم قام وتركها» قال الترمذي حسن صحيح، وقال: «الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالماً أو متعلماً»، وقال: «ليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت».