الحجازيون يحيون تراثهم القديم ويفتقدون لوحات قضت عليها حداثة العصر

«المستكة» و«الفول المبخّر» أبرز ما يميز موائدهم الرمضانية

TT

ما زالت خديجة علي تنهج نهج والدتها في طقوس تميز شهر رمضان الكريم عن باقي شهور السنة، والتي ينفرد بها المجتمع الحجازي (غرب السعودية) دون المجتمعات الأخرى، إذ تحرص دائما على شراء أجود أنواع المستكة لتستخدمه في إضفاء طعم مختلف لماء الشرب.

وتقول: «بعد وضع الفحم على النار أقوم بغسل الأكواب وتجفيفها، وإضافة المستكة على الفحم المشتعل، ومن ثم تبخيرها، وينبغي قلبها على منشفة بعد فردها في صينية حتى تثبت الرائحة في الأكواب».

وتضيف: «عادة ما تعطي رائحة المستكة طعما مختلفا لماء الشرب، خاصة إذا كانت الأكواب مصنوعة من المعدن، والمشتهرة باسم «كاسات التوتوة»، ما يساعد ذلك في فتح شهية الصائم لتناول وجبة الإفطار».

ولا يقتصر استخدام المستكة على تعطير أكواب الشرب فقط، إذ تستخدمه أريج جلال في تبخير الجرار الفخارية التي تملؤها بالماء طيلة الشهر المبارك، وتقول: «أملأ الجرّة المبخرة بماء زمزم، وأضعها على طاولة الطعام في درجة حرارة الغرفة العادية، لا سيما أن الفخار يمتلك خاصية حفظ البرودة، ما يعطي طعما مختلفا للماء».

ويستخرج المستكة من شجر صغير دائم الخضرة وله ثمر أحمر مر الطعم، والذي عادة ما ينمو في حوض البحر المتوسط، وهو عبارة عن العصارة الرانتجية التي يزداد إفرازها بعمل شقوق طولية في جذع الشجرة والأغصان الكبيرة للنبات، أو بإزالة شرائح من اللحاء، حيث تسيل العصارة التي ما تلبث أن تجمد سريعا عند تعرضها للهواء، فتبقى على هيئة دموع هشة بيضاوية معلّقة بالشجرة، أو حبوب طويلة لونها أصفر، في حين يتساقط الباقي على الأرض.

فيما تهتم لمياء صالح بإضافة بضع قطرات من ماء الكادي على إبريق الماء، وتقول: «ترتبط نكهة ماء الكادي بالمائدة الرمضانية لدى أفراد عائلتي، إذ أن ذلك يعد ضروريا جدا في حال عدم وجود ماء زمزم في المنزل»، مشيرة إلى أنها تراعي أذواق جاراتها أثناء دعوتهن على مائدة الإفطار، حيث أنها في بعض الأحيان تستبدل ماء الكادي بماء الزهر أو الورد.

وترى روان أحمد أن الفول المبخّر هو ما يميز مائدتها الرمضانية كل سنة، وتقول: «أحضّر الفول بشكل مختلف، حيث أقوم بتسخينه على النار، وحفر حفرة صغيرة في منتصف القدر لأملأها بزيت الزيتون والقليل من البصل المفروم، ومن ثم أضع قطعة فحم مشتعلة داخل الحفرة وأغلق القدر»، لافتة الى أنها لا ترفع الغطاء عن القدر إلا بعد مرور ما لا يقل عن عشر دقائق، حيث أن دخان الفحم المنطفئ بزيت الزيتون يعطي نكهة لذيذة للفول. وتضيف:«أغرف الفول في أوان فخارية كنوع من أنواع التغيير، إضافة إلى أن مادة الفخار تضفي على النكهات طابعا تقليديا قديما، يذكرنا بعبق الماضي الأصيل».

ولا تنحصر العادات الحجازية الرمضانية في إطار الموائد فحسب، وإنما تمتد إلى ديكورات المنازل والتي عادة ما تكون مستقاة من المجتمع المصري، حيث هناك عائلات حجازية تزيّن أركان المنزل بفوانيس رمضان. وتقول إحدى السيدات، فضّلت عدم ذكر اسمها،: «تحضرها لي إحدى صديقاتي المقيمات في مصر، غير أنني أحرص دائما على اختيار ألوان تتلاءم مع أثاثي المنزلي»، مشيرة إلى أنه تم ابتكار أشكال متعددة من الفوانيس والتي عادة ما تستخدم في الإنارة وتغيير إضاءات المنزل.

وتضيف: «قد توجد تلك الفوانيس في السعودية، إلا أنها تباع بأسعار مبالغ بها مقارنة بسعرها الحقيقي في بلدها الأصلي». وعلى رغم تمسّك الحجازيين بعادات قديمة توارثوها عبر الزمن لتتميز فيها الأجواء الرمضانية، غير أن ثمة صورا اندثرت مع مرور الزمن، حيث أنها لم تعد مواكبة لحداثة العصر.

ويحكي علي أحمد أبرز المشاهد الرمضانية التي لا تزال عالقة في ذهنه حتى الآن، ويقول: «كان وجود المسحّراتي يزيد الليالي الرمضانية جمالا، إذ أنه كان يحمل مسؤولية إيقاظ سكّان الحي لتناول وجبة السحور على أنغام طبلته وعصاته الصغيرة والمسمّاة بـ«المِقرع»، والتي يضرب بها الطبلة ثلاث ضربات مجتمعة وضربة واحدة منفردة، إضافة إلى الأهازيج التي كان يرددها على مسامعهم»، مشيرا إلى أن المسحراتي كان يحمل معه حقيبة من القماش تسمى «الكُنف»، والتي يجمع بها ما يقدّمه الناس له من التمر والخبز والمأكولات.

ويضيف: «يقوم هذا الرجل بمهمته على أكمل وجه طيلة شهر رمضان المبارك، ليبشّرهم بقدوم ليلة عيد الفطر حينما يقدّم لهم التهاني مقابل إعطائه العيدية التي عادة ما تختلف باختلاف إمكانيات كل عائلة»، لافتا إلى أن تلك اللوحة اندثرت في مكة المكرمة قبل حوالي 45 عاما، فيما كانت المدينة المنورة والطائف آخر المناطق التي ودّعت المسحّراتي.