عادات رمضانية انقرضت في البلقان.. لا تزال في الذاكرة

أحميد أغيتش لـ «الشرق الأوسط» : هناك من يدعو لليلة ثقافية يجوب فيها المسحراتية شوارع المدن في رمضان

يتذكر البلقانيون بحنين واضح تلك التقاليد التي لم يعد لها وجود في رمضان الآن («الشرق الأوسط»)
TT

كسائر بلاد الدنيا، والكثير من بلاد المسلمين، يتذكر البلقانيون، ولا سيما كبار السن والباحثون، بعض العادات والتقاليد التي كانت سائدة في البلقان، ولم يعد لها وجود في زمننا الحاضر، بحكم تقدم وسائل الاتصال والاعلام، وأدوات العصر التي دفعت الناس دفعا لنسيان بعض عاداتهم وتقاليدهم في المناسباب والشعائر الاسلامية كالصوم في شهر رمضان. ومع ذلك يتذكر البلقانيون بحنين واضح لتلك التقاليد التي لم يعد لها وجود في حياتهم، ويتمنون احياءها ولو من باب المحافظة على ذكرى أشكال من الاجتهاد الاجتماعي والثقافي، كان يستعان بها أزمنة جميلة، كتراث يعتز به، رغم انتفاء الحاجة إليه عمليا، لكن الحاجة تبقى في حب الآثار، والثقافة التي هي جزء من كينونة الانسان وذاكرته الجماعية، التي لا غنى عنها، رغم التقدم التكنولوجي، الذي أزاحها عمليا. فكثير من الناس استغنوا عمليا عن الفوانيس التي كانت تعمل بالوقود، ولكنهم لا يزالون يحتفون بها، وكذلك وسائل النقل القديمة، وأواني الفخار والنحاس، سواء للزينة والذكرى، أو استخدامها في المناسبات، فهي جزء من الذاكرة الشعبية والثقافية للامم المختلفة. وقال الباحث والوجه المعروف في البلقان ابراهيم أحميد اغيتش لـ«الشرق الأوسط» أن «المنبه الموجود في الساعات المنزلية، وأجهزة الحاسب الآلي قضت على المسحراتي، الذي يطلق عليه باللغة المحلية، تلال، ولكن هناك من يفكر في إعادته كجزء من الحفاظ على التقاليد والذاكرة الشعبية، وشكل من أشكال الثقافة المتوارثة، ولا سيما في القرى، وهناك من يدعو لجعلها ليلة ثقافية واحدة في السنة تقام في رمضان يجوب فيها المسحراتية شوارع المدن، وليس بالضرورة في وقت السحور، حتى تعلم الأجيال الجديدة كيف عالج سلفنا، قضية القيام للسحور، وتابع من العادات والتقاليد التي لم تعد قائمة أيضا، هي رؤية القناديل، والتي كانت تعلق على قمم المنارات بالمساجد إيذانا بحلول وقت الافطار، لا سيما في المناطق التي تبعد عن تلك المساجد ولا يسمع فيها صوت الآذان قبل ظهور مكبرات الصوت. ويضيف إلى جانب ذلك لم تعد تقام الاحتفالات لتوديع رمضان، فقد كان الناس يودعون رمضان بقرع الطبول والعزف بالمزمار لعدة أيام تسمى أيام توديع رمضان، تعبيرا عن مدى حبهم ورغبتهم في هذه الشعيرة العزيزة على قلوب المسلمين، ومدى ترحيبهم برمضان المبارك وحبهم له «وعما إذا كان هناك موعد محدد لحفلات توديع رمضان أفاد أحميد اغيتش بأن ذلك يكون في الغالب» بعد العيد بـ 5 أيام على الاقل. ومن العادات والتقاليد التي انقطعت من سنة 1939 وحتى 1992 مدفع رمضان الذي منع في العهد الشيوعي، وعاد بعد استقلال البوسنة السياسي والثقافي، ومنذ 1992 وحتى اليوم يسمع سكان المدن في سراييفو وغيرها دوي المدافع عند الافطار، ويتمنى الكثيرون أن تعود العادات الأخرى للظهور مجددا كعمل ثقافي طيلة شهر رمضان أو في بعض أيامه أو يوم واحد في الشهر الكريم. وقالت علمادينا زوكو سكرتيرة جمعية «الشباب المسلم»، أن «تقاليد كثيرة لم تعد موجودة ما عدا أوني النحاس التي لا تزال فقط في البيوت البوشناقية الكبيرة. أما التي لم يعد لها وجود تماما فهي، صلاة التراويح في البيت، فقد كان الكثيرون يصلون التراويح في بيوتهم، مع أسرهم». وقالت أن «النساء كن يقمن بإعداد العولة، وهي صناعة كميات كبيرة من حلويات، تشاتينيا، تخزن ويؤكل منها طيلة شهر رمضان، لا سيما إذا كان في الشتاء، فهي حلوى لموسم البرد والثلج، يجتمع النسوة لعدة ساعات حتى ينتهين من إعدادها، ثم ينتقلون لبيت آخر وهكذا». ومن عادات رمضان التي انقرضت وبدأت تعود تدريجيا توزيع القهوة في الشوارع ليلة 27 رمضان. التي تصطبغ بنكهة القهوة، حيث يقضي المسلمون ليلة 27 رمضان داخل المساجد وينهمك الكثيرون في صلوات عميقة وقراءة القرآن، ولا سيما المعتكفون في العشر الاواخر من رمضان. ويزداد عدد الوافدين على المساجد بشكل لم يسبق له مثيل من قبل، حيث تتزاحم الجموع، ويضطر المصلون في بعض المساجد لفرش السجاد في الساحات الخلفية، أو الصلاة على الارصفة العارية، والاسمنت البارد. كما تشهد ساحة باش تشارشيا في سراييفو ازدحاما كبيرا على أكبر دلة للقهوة في العالم والتي تسع 800 ليتر، حيث يتم توزيع القهوة مجانا في رمضان وهو تقليد راسخ في البوسنة يتجدد العهد معه في كل رمضان. وكان الحاج ناصر جابوشار صاحب أكبر دلة في العالم قد تلقى تهاني الجميع وشكرهم وثناءهم على صنيعه. وقد عبر جابوشار عن سعادته لانه أحيا عادة ظلت حبيسة القهر الشيوعي مدة تزيد عن 70 عاما. وتشهد الساحة حضور شخصيات اجتماعية وسياسية وثقافية ودبلوماسية يأتون جميعا لتذوق قهوة رمضان كما أطلق عليها في سراييفو. وتعتبر القهوة من الاساسيات في البوسنة، ويحتفل بها كما يحتفل بالقهوة العربية في منطقة الخليج ولا سيما السعودية وربما أكثر. حتى إن الهيئات الاغاثية الاسلامية لم تغفل هذا الامر في أيام الحصار التي عاشها المسلمون في البوسنة، حيث كانت من بين المواد الاساسية التي توزع على المحتاجين والمحاصرين والمهاجرين والجنود في خنادق القتال.

ومن الطرائف أن امرأة بوسنية تلقت سلة غذائية ولما فتحتها لم تجد القهوة فقالت «لا يوجد شيء في هذه السلة» ويقول البوسنيون الذين تمتعوا بشرب القهوة في ليالي رمضان أنها «ألذ قهوة فلأول مرة يشرب الناس القهوة في الشارع وبشكل جماعي وفي جو من الفرح المزدوج» فرحة الصائم بفطره، وفرحة الاجتماع على ممارسة التقاليد التي يعتز بها كثيرا، وعبر البعض عن تلك المشاهد وسط الانوار المتلالئة بأنه «مهرجان رمضاني فريد بعيد عن الصخب، أفراح الروح في شهر الروحانيات، شهر العبادة، شهر الله».