التقاليد الرمضانية القديمة في لبنان: شعائر دينية وترفيه وحلويات منزلية

ما تبقى منها إما فقد وهجه أو ارتدى ثوب التمدن

TT

تحولات جذرية طرأت على الصورة الرمضانية في لبنان. لبست مناطقه ثوب التمدن وخلعت عنها التقاليد الا في ما ندر. طقوس متنوعة وشعائر دينية اما تلاشت أو في طريقها الى التلاشي بعدما اصبح حضورها لا يعدو كونه مستوحيا من الجذور مع ما طرأ عليه من طبيعة العصر ومتطلباته. سلوكيات انقلبت رأسا على عقب. اجواء جديدة طغت على طبيعة الحياة الرمضانية ويومياتها فتأقلم معها اللبنانيون الى درجة أن رمضان تحوّل الى شهر للترفيه وتمضية الوقت بعيدا عن كل ما يفترض أن يطبع هذه الأيام ليس فقط في ما يتعلّق بالشعائر الدينية وانما طاول العلاقات العائلية والاجتماعية.

يقول الباحث والاستاذ الجامعي الدكتور حسان حلاق ان العادات اللبنانية القديمة كانت لها سمات وخصائص تعود بجذورها الى العادات والتقاليد العربية والاسلامية، ولكنه اعتبر أن رمضان في هذه الأيام فقد وهجه ورونقه اللذين كان يتسم بهما في القدم. ويميز حلاق في الأجواء الرمضانية نفسها بين العادات الاجتماعية والشعائر الدينية وحتى الحلويات الرمضانية، التي كانت علامة رمضانية فارقة لا بد من أن ترافق هذا الشهر الفضيل ولكنها اليوم اندثرت ولم يعد لها وجود.

يصف حلاق الأسواق قبيل شهر رمضان في ذلك الزمن بالحركة التي لا تهدأ، ويقول: «كانت تزدهر وتنتعش ابتداء من نصف شهر شعبان وتزداد ازدهارا قبيل ايام قليلة من رمضان المبارك، ولكن اضافة الى الاسواق العادية الموجودة طوال اشهر السنة في لبنان كأسواق اللحوم والأسماك والخضار، كان لأسواق الحلويات والمشروبات الرمضانية دور في اكتمال الطقوس الرمضانية الغذائية مثل سوق القطايف الذي كان البائعون فيه متخصصين في صناعة القطايف من دون أن تغيب عن كل المناطق الأخرى محلات السوس والجلاب والمشروبات الرمضانية الأخرى، وكانت هذه الأسواق تشكّل محطة يومية للقاء اللبنانيين خلال النهار وهم يتسوّقون لهذا الشهر الفضيل».

ولمساء 29 شعبان خصائصه وتحضيراته بحسب حلاق، اذ كان اللبنانيون يقومون بالسنّة النبويّة في ما يتعلّق بالتماس هلال رمضان، وذلك بعد أن يتجمعوا ويذهبوا لتمضية السهرة على شاطئ البحر لرؤية الهلال بأم العين، ليقوم عدد من الرجال، بعد التماس الهلال، بالتوجه الى دار الفتوى أو المحكمة الشرعية ليشهدوا أمام المفتي والقضاة الشرعيين شرط أن يكون الشهود من المؤمنين وذوي السيرة الحسنة، ومتى تثبت شهادتهم يعلن المفتي أن اليوم التالي هو أول أيام الصيام. أما في هذه الأيام وقد تطورت التكنولوجيا ولم يعد الناس بحاجة الى مراقبة القمر وتحوّل هذا الطقس الذي كان يسمى «استبانة رمضان» الى «السيبانة اللبنانية» مع ما يرافقها من تبدّلات، اذ اصبحت الاستبانة عبارة عن نزهة تقوم بها العائلة أو الاصدقاء اما في اليوم الذي يسبق بداية الشهر الفضيل أو في آخر أحد من شهر شعبان، ويحرص هؤلاء على تمضية اليوم في التنزه والترفيه وتناول الغداء في المطاعم. ولم تكن طقوس استقبال الشهر الفضيل تنتهي عند هذا الحدّ، بل للاحتفالات تتمة، اذ فور اعلان بدء الشهر الفضيل تملأ الفرق الدينية الشوارع من خلال مسيرات مزينة بالبيارق وهي تنشد الأناشيد الدينية والأهازيج الرمضانية، ويذكر حلاق أن هذه المسيرات ظلت تنفّذ مهمتها لغاية خمسينات القرن الماضي. اما اليوم وبعد غياب هذه الظاهرة لعشرات السنوات ها هي دار الأيتام الاسلامية تحاول اعادة احيائها وان بطريقة عصرية أبطالها أطفال ايتام يجولون في مواكب سيارة بأزياء تلائم الشهر الفضيل على وقع الأناشيد الدينية.

ولأن من خصائص رمضان اجتماع العائلة فكانت لهذه الميزة في ذكريات اللبنانيين حصة ما يزال كبار السن يتذكرونها بحنين، ويقول حلاق عن هذه العادات «إنها كانت خير لقاء تجمع العائلة الكبيرة والصغيرة، اذ كانت العائلات تحرص على تبادل الزيارات واحياء السهرات الجماعية يوميا من دون أن يغفلوا الشعائر الدينية التي باتت اليوم مقتصرة على فئات محددة بعدما أهملها الآخرون، ولا سيما اقامة صلاة التراويح في المساجد بعد صلاة المغرب، كذلك كان ينتشر ما يعرف بـ «الزوايا» التي كان يزيد عددها عن الثلاثين في بيروت اضافة الى تلك التي كانت منتشرة في المناطق اللبنانية الأخرى». ويعرفها حلاق بأنها مكان يشبه المسجد ومخصص أيضا لاقامة الصلاة والاذكار والاستماع الى الأحاديث التي كان يلقيها «شيخ الزاوية» على الحاضرين. ولا تنتهي طقوس السهرات الرمضانية هنا، يضيف حلاق «اللقاءات تمتدّ الى موعد السحور وصلاة الفجر ليعود بعدها الجميع الى بيوتهم بعد أن ينهوا شعائرهم الدينية».

وفي ما يتعلّق بالطقوس الغذائية والمأكولات الرمضانية يشير حلاق الى ما كان يسمى منذ العهد العثماني بـ«الزغلولية» وهو ما يعرف اليوم بـ «الحدف» أو البقلاوة التي كان ينهمك اللبنانيون في صنعها من اليوم الأول لشهر الصيام، أما اليوم فأصبحت متوافرة بشكل دائم، ولم يعد الناس يبذلون جهدا لصنعها في المنازل. الأمر نفسه ينسحب على المعمول الذي لم يكن يكتمل العيد من دونه، اذ كانت تمضي السيدات اللبنانيات ليالي طويلة لصنعها، وبعد الانتهاء من تحضيرها كان يأتي العامل ويذهب بها الى فرن الحي ليخبزها ثم يعيدها ويأخذ أجرته اما قروشا معدودة أو عددا معينا من حبات المعمول. يمكن القول ان هذه العادة في طريقها الى التلاشي نظرا الى فقدان المعمول والكنافة الى «قيمتهما العيدية» وأصبحتا متوافرتين أينما كان وفي أي وقت، أما الأهم فهو أن معظم اللبنانيات أرحن أنفسهن واستغنين عن صناعة المعمول والكنافة في البيت وما يرافق صناعتهما من ارهاق وتعب وفضلن احضارهما جاهزين، باستثناء قلة قليلة من كبيرات السن في بعض المدن والقرى يحرصن على القيام بهذه المهمة بأنفسهن. ويعتبر حلاق أن الخيم الفنية المنتشرة في هذه الايام في شهر رمضان هي بدع اعتمدها اللبنانيون ولا تليق بهذا الشهر بعدما كانوا لغاية الستينات من القرن الماضي يسهرون على وقع المدائح الدينية التي كانت تنشدها الفرق الدمشقية والحلبية والمصرية التي تحضر الى لبنان خصيصا في هذا الشهر.