التفاؤل

د. عائض القرني

TT

سُجن شاعران في أثناء الثورة الفرنسية، فنظر أحدهما من السجن إلى النجوم وضحك، ونظر الآخر إلى الطين في الشارع المجاور وبكى، والمكان هو المكان، والقضية هي القضية، ولكن اختلفت الرؤية. الأول نظر إلى الأعلى حيث جمال النجوم، وارتفاع النجوم وروعة النجوم فاستبشر خيراً وتبسم لجمال الكون، والثاني نظر إلى أسفل حيث الطين وانحطاط الطين فنظر بعبوس وتشاؤم. وهكذا الناس جميعاً أمام كل حادثة وكل شخص وكل قضية؛ فمنهم من ينظر إلى الجانب المشرق فيطالع الحسنات في الأشخاص فيسر بها، وآخر يطالع الجانب المظلم وينظر إلى السيئات في الأشخاص فيكرهها. ألا فانظروا إلى النصف المليء من الكوب، وطالعوا النجوم وانسوا ظلمة الليل. الله جميل يحب الجمال، الكون جميل، السماء صافية، الشمس بهية، فكن جميلاً لترى الجمال. النفوس الجميلة نفوس طاهرة راضية، والنفوس الكريهة نفوس آثمة خاطئة. واعلم أخي المسلم أن الفأل من حسن الظن بالله عز وجل؛ فعن أوس بن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، عن جده، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتفاءل ولا يتطير.

واعلم أيضاً أن العبد إذا أحسن الظن بالله في الأمور كلها؛ أمله، ورجائه، وفى له ربه الكريم بذلك، ومن أحسن وفاء منه تعالى؟ قال بعضهم: إن لله تعالى عباداً ينفقون على قدر بضائعهم، ولله عباد ينفقون على قدر حسن الظن بالله تعالى.

ومات بعضهم فأوصى بماله لثلاث طوائف: الأقوياء، والأسخياء، والأغنياء. فقيل: من هؤلاء؟ فقال: أما الأقوياء فهم أهل التوكل على الله تعالى، وأما الأسخياء فهم أهل حسن الظن بالله تعالى، وأما الأغنياء فهم أهل الانقطاع إلى الله تعالى.

ولنكن جميعاً ممن كان حسن ظنهم بالله تعالى ناشئاً عن شهود جماله ورؤية كماله فلا ينقطع حسن ظننا بالله سواء واجهنا بجماله أو بجلاله؛ لأن اتصافه تعالى بالرحمة والرأفة والكرم والجود لا ينقطع، فإذا أصابنا بجلاله أو قهريته علمنا ما في ذلك من تمام نعمته وشمول رحمته فغلب علينا شهود الرحمة والجمال، فدام حسن ظننا على كل حال. أو نظرنا إلى سالف إحسانه وحسن ما أسدي إلينا من حسن لطفه وامتنانه فقسنا ما يأتي على ما مضى فتلقينا ما يرد علينا بالقبول والرضى. ولا يعظم الذنب عندك عظمة تصدك عن حسن الظن بالله؛ فقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «خصلتان ليس فوقهما شيء من الخير؛ حسن الظن بالله وحسن الظن بعباد الله، وخصلتان ليس فوقهما شيء من الشر سوء الظن بالله وسوء الظن بعباد الله».

وقال تعالى: «إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ» وقال عليه السلام: إن الله يحب كل مفتن تواب. يعني كثير الذنب كثير التوبة. فهذه النصوص تقوي رجاء العباد وتوجب الاعتدال والسداد. فإذا أردت أيها الإنسان أن يتقوى رجاؤك في الكريم المنان فاشهد ما منه إليك من الإحسان واللطف والمبرة والامتنان، فهل عودك إلا حسناً؟ وهل أسدى إليك إلا مننًا؟ عليك بسط مننه، ولك هيأ جنته، أنعم عليك في هذه الدار بغاية الإنعام، وما قنع لك بذلك حتى أعدّ لك دار السلام خالداً فيها على الدوام ثم أتحفك بالنظر إلى وجهه الكريم، وإذا أردت أن ينفتح لك باب الحزن والخوف فاشهد ما منك إليه من الإساءة والتقصير في العبادة أو من موافقة الشهوة والاسترسال مع الغفلة فإنك إن شهدت ذلك دام حزنك وقوي خوفك وربما كان سبباً في سوء ظنك بربك فتزل قدم بعد ثبوتها. اللهم ثبت قلوبنا على دينك يا أرحم الراحمين.