الرفق الرفق

د. عائض القرني

TT

المداراة هي الترفق واللين لنيل حق أو إعطاء حق.

والمداهنة هي التنازل عن الحق لإعطاء شيء من الباطل أو أخذه، ونحن بحاجة إلى مداراة في حياتنا، وإذا لم ندارِ فسوف ندفع الثمن من راحتنا وصحتنا وسلامتنا، لا بد من أن تداري صديقك وإلا هجرك، وأن تداري أباك وإلا سخط عليك، وأن تداري أمك وإلا جفتك، وأن تداري زوجتك وإلا صدت عنك، حتى طفلك الصغير لا بد من أن تداريه وإلا تبرم منك وأعرض عنك، بل إن الحيوان من جمل وثور وفرس لا بد من أن تستخدم معه المداراة وإلا جمح ونفر. ما أحسن المداراة! إنها فن المعايشة والأسلوب الحق الحضاري للتعامل مع الآخرين. تعالوا ندارِ من له حق علينا ليصلح الحال ويستقيم الأمر. أما من لم يدارِ فهو الضحية؛ لأنه رفض الطريق السهل والأسلوب الأمثل والخلق الراقي، فنبشره بشقاء دائم وحزن مستمر. الحياة كلها تحتاج إلى مداراة، ولم ينجح في الحياة إلا من دارى، ولم يسعد إلا من تغاضى، ولم يفلح إلا من تغابى:

* لَيسَ الغَبِيُّ بِسَيِّدٍ في قَومِهِ ـ لَكِنَّ سَيِّدَ قَومِهِ المُتَغابي.

حتى إن المرء يحتاج مع نفسه للمداراة فهو يعلم أن نفسه مطية ولا بد من مداراتها والرفق بها ليصل إلى المقصود. وقد قال النبي: «وإن لنفسك عليك حقاً». وإذا كان لها حق فليأخذ لها ما يصلحها، وليترك ما يؤذيها من الشبع والإفراط في تناول الشهوة؛ فإن ذلك يؤذي البدن والدين، دون أن يطلق لها العنان في كل ما تريد؛ فتجمح جموح الفرس، ولا أن يحبسها؛ فتذل وتخضع. ولتعلم أخي المسلم أن الرفق صفة يحبها الله فى كل مجالات الحياة، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب الرفق فى الأمر كله» البخاري: كتاب الأدب. ولهذا ينبغى على كل مسلم أن يلتزم بالرفق في تعامله مع كل من وما تحت يديه؛ فيرفق بأبويه وأهله، ويكون رفيقًا بمن تحت يديه في العمل، وبما سخره الله له من حيوانات، عطوفًا على الضعفاء والمساكين، لينال ستر الله في الدنيا ورضاه في الآخرة.

واعلم ـ أخي المسلم ـ أن الرفق واللطف واللين في مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له فوائد عظيمة في كسب الأنصار والمؤيدين وبالتالي انطلاق الدعوة إلى الخير والالتفاف حولها، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة في قوله تعالى: «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ». وقد ورد في تفسير هذه الآية قول لعبد الله بن عمر جاء فيه: «إني أرى صفة الرسول صلى الله عليه وسلم في الكتب المتقدمة، إنه ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح». وفي السيرة النبوية أمثلة عديدة لأسلوب الرفق واللطف الذي اتخذه النبي صلى الله عليه وسلم لتبليغ أمر ربه والدعوة إليه.

ويقول سيد قطب ـ رحمه الله ـ في حاجة الناس إلى الرفق والسماحة والحلم: «الناس في حاجة إلى كنف رحيم، وإلى رعاية فائقة، وإلى بشاشة سمحة، إلى ود يسعهم، وحلم لا يضيق بجهلهم وضعفهم ونقصهم، في حاجة إلى قلب يعطيهم ولا يحتاج منهم إلى عطاء، ويحمل همومهم ولا يعنيهم بهمه، ويجدون عنده دائمًا الاهتمام والرعاية والعطف والسماحة والود والرضا، وهكذا كان قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا كانت حياته مع الناس؛ ما غضب لنفسه قط، ولا ضاق صدره لضعفهم البشري».

اللهم اجعلنا ممن اتصف بالأخلاق الإسلامية الحميدة من عباد الله الذين زينهم الإيمان وجملتهم التقوى، يا رب العالمين.