البيومي «الحلواني».. يعبر بالكنافة «مطبات» التكنولوجيا إلى بر الأمان

الطبقات الشعبية في مصر أنقذت مهنته من الانقراض

إقبال كبير على الكنافة والقطايف خلال شهر رمضان في مصر («الشرق الأوسط»)
TT

في شارع السودان بالجيزة، كان كل شيء يبعث على الإعياء، عشرات السيارات ترسل ضجيجها المجاني بلا انقطاع في محاولة يائسة لفتح الشارع للحاق بالإفطار، الحرارة لا تهبط من عليائها، ساهم في اعتزازها بنفسها فرن الكنافة الدائر بكل قوته في محل بيومي مع أنفاس أمواج البشر المكتظة داخله، والمرصوصة في طوابير أمامه في مشهد يذكرك بالزحام على المجمعات الاستهلاكية وقت الحرب.

وحدها ابتسامة أحمد البيومي صاحب المحل اخترقت هذا المشهد العبثي لتعلن للمراقب أن هناك من هو سعيد بهذه الأجواء، البيومي واحد من بين ثلاثة أشقاء توارثوا مهنة الكنفاني «أبا عن جد»، بحسب التعبير الشعبي، كان للوالد محل لصنع وبيع الكنافة في منطقة بابا الشعرية الشعبية بوسط القاهرة، ثم توسع الأبناء الثلاثة وفتح كل منهم محلا خاصا به، أحدهم في منطقة الحسين، والآخر في عابدين بالقرب من القصر الملكي القديم والثالث في شارع السودان بالجيزة، يعتبر أصغرهم لكن مع ذلك فالزحام على محله خير دليل على ان المهارة التي توارثتها العائلة لم تضع سدى وسط ركام الماكينات الحديثة التي ظن البعض أنها ساوت بين الناس.

«كل واحد جايب مكنة وفاتح في الشارع وفاكر نفسه كنفاني.. صحيح نفس العجينه هي هي بس الصنعة تفرق والزبون زكي بيعرف الصنايعي الحقيقي ومش أي حد بيعرف يرش يبقى كنفاني"، هكذا سخر البيومي من منافسيه الموسميين الذين يمارسون مهنة الكنفاني في شهر رمضان فقط دون إلمام بأسرار جودتها، معتبرا أن الزحام على محله خير دليل على أن «الناس بتختار صح».

لبيومي ثلاثة أولاد تخرجوا جميعا من الجامعة ما بين الهندسة والحقوق والحاسب الآلي ولكنهم جميعا بجانب والدهم في محله يعملون من الثامنة صباحا إلى الثانية ليلا ويتناولون طعام الإفطار في نفس مكان العمل.

يعمل محل بيومي في صنع وبيع الكنافة طوال العام، ولكن نسبة البيع لا تتعدى 2% من اجمالي البيع في شهر رمضان، كذلك «القطايف» فرغم حرصه على صناعتها طوال الشهر الكريم إلا أنه يداوم على صنعها في الأيام العادية بخاصة يومي الاثنين والخميس وهي الأيام التي يكثر فيها صيام التطوع ويتشابه فيها مزاج الزبون مع مزاجه في رمضان.

بدأت عائلة بيومي العمل بصنع الكنافة مع الفرن البلدي المبني من الطوب والحجارة وتركزت حرفيتها في ضبط مقادير المياه والدقيق بدقة مع حرفية رش الخليط على لوح الصاج الساخن ثم لم الكنافة بعد أن تسويها النيران في الوقت المناسب.

هكذا بنت العائلة شهرتها ولكن مع التكنولوجيا استغنت العائلة عن الفرن البلدي الذي يعمل بالفحم وبدأت باستعمال نوع آخر بالسولار ثم دخلت الماكينات محلاتهم منذ 15 عاما وهنا قلت المهارة اليدوية تدريجيا وإن بقيت لمسلات المقادير وتاريخ العائلة العريق عاملان يضمنان رواج منتجاتهم.

يعترف بيومي أن الإقبال على الكنافة لم يعد مثل الماضي فالكثيرون الآن يشترونها جاهزة من محلات الحلوى، وبدأت تختفي تدريجيا عادة صنع الكنافة في المنزل، وإن بقية الأسر الشعبية تحافظ على صناعة الكنافة بشكلها البدائي بخاصة بعد وصول سعرها إلى عشرة جنيهات في حين تبيعها محلات الحلوى الفاخرة بثمن قد يتجاوز 30 جنيها للكيلو خاصة وأن سعرها الخام لا يتعدى 6 جنيهات للكيلو في حين تبيعها محلات الحلوى الفاخرة بثمن قد يتجاوز خمسين جنيها.

تفاعل بيومي مع متغيرات العصر لإنقاذ مهنته من الانقراض لا يقتصر على بيعه بضاعته بثمن رخيص ليقبل عليها الفقراء بل أيضا بيعه لمحلات الحلوى الفاخرة الكنافة بالجملة ليضمن رواج بضاعته طوال العام.

أنهى بيومي حديثه تحت إلحاح الزبائن فنظر إلي مبتسما معلنا انتهاء الحديث بأدب، فبدا وكأنه الوالي الذي استجاب لطلب المصريين عندما اشتكوا له من ارتفاع ثمن الكنافة والقطايف عام 917هــ وكتبوا قصيدة طريفة يقول مطلعها:

«لقد جاء بالبركات فضل زماننا/ بأنواع الحلوى شذاها يتضرع/ فيا قاضياً رخص لنا الكنافة، نطيب ونرتع» سرعان ما انهمك بيومي في البيع، دون أن يفقد ابتسامته.