بِمَ تعرف العاقل؟

د. عائض القرني

TT

العقل أعظم هبة من الخالق للمخلوق، فهو الفارق بين الإنسان والبهيمة، وبقدر غزارته وجودته يختلف الناس، فالعاقل كبير القدر عظيم الخطر، جليل الشأن، تلمحه العيون، وتشيعه القلوب. وقليل العقل سفيه طائش، حقير تافه، سخيف أحمق. يعرف العاقل بقراءة العواقب، وصدق الظن، ونضوج الفكرة، وصحة الظن، وسلامة الدليل، وحسن الاختيار، وبراعة الرد، والوقوف عند الشبهة، والحمية من الريب، والصيانة من التهم. والعاقل متدرع من الأزمات برأي كالصبح إذا تنفس، ومتحصن في المهالك بفكر كسنا البرق الصادق. والعاقل الفطن الموفق من قبل نصح الناصح بأخصر عبارة وعرف الحق واتبعه بأدنى إشارة.

والعاقل من لا يتلذذ إلا بالأمور النفسانية الباقية والغبي عن حقائق أحوال المحسوسات وإيذانها باللذات يجعل عينه على ما زين من الأرض بصنوف الزينة ووشح به من زخارف البهجة التي تطرب الحيوان غير الناطق فيلعب فيها ويتمرغ في لينها وتأخذه الأريحية من روائحها.

والعاقل من يفكر في المواقف التي تجابهه، فيستثمر علمه وتجربته وما وصله من هدي إلهي في الموازنة والترجيح؛ ليصل إلى قرار حكيم يناسب الموقف الذي هو فيه، فيختار ما أداه إليه عقله وتجربته وفهمه لأحكام دينه حلا وحرمة وجوازاً وغير ذلك.

والعاقل من إذا رجع إلى نفسه وعقله أدنى رجوع عرف افتقاره إلى الخالق ـ تعالى ـ في تكوينه وبقائه وتقلبه في أحواله كلها، وإذا نظر إلى الخلائق علم فقرهم كلهم إلى الخالق في كل شيء؛ فقراء إليه في الخلق والإيجاد، وفي البقاء والرزق والإمداد، وفقراء إليه في جلب المنافع ودفع المضار. وعرف أنه منهم، وحاجته لا تقل عن حاجتهم.

والعاقل من إذا تأمل في المخلوقات التي تولد كل يوم، من إنسان وحيوان، وتفكر في كل ما يحدث في الوجود من رياح وأمطار، وليل ونهار، وما يجري في كل حين من حركات منتظمة للشمس والقمر والنجوم والكواكب، إذا تأمل العاقل في هذا فإنه يجزم بأن هذا كله ليس من صنع العدم، وإنما هو من صنع الخالق الموجود سبحانه وتعالى.

والعاقل هو الفطن المتغافل عن الزلات وسقطات اللسان إذا لم يترتب على ذلك مفاسد. وقد قال ـ عز وجل ـ في صفات عباد الرحمن: «وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا».

أما ضعيف العقل فكلامه قبل رأيه، وفعله قبل تصوره، وهو من حمقه في ظلمات، ومن سفهه في ضلالات، يحفظ غير ما يسمع، ويفهم غير ما يحفظ، ويقول غير ما يعتقد، يقدم المؤخر، ويؤخر المقدم، الكبار في عين وهمه مصغرة، والتوافه في جفن كراه مضخمة، يُحجم وقت الإقدام، ويقدم وقت الإحجام. «وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ».