السعوديون يستعيدون صورة رمضان في أشهر الصيف الساخنة

الأحياء القديمة والأكلات الرمضانية تبقي مظاهر الصوم قبل عدة عقود

الإفطار بالتمرات من السنة في الاسلام في شهر رمضان المبارك («الشرق الأوسط»)
TT

يحل رمضان الحالي في السعودية وعموم دول العالم الإسلامي في أجواء ساخنة معيدا بذلك عقودا من المعاناة عاشها الآباء والأجداد في ظل إمكانيات بالغة الصعوبة بعد أن صام الجيل الجديد سنوات في أجواء باردة أو معتدلة، ووضع الكثير من الأسر برامج خلال هذا الشهر يتناسب وطبيعة الأجواء الصيفية التي حل بها الصوم في أجزاء من أغسطس (آب) اللهَّاب وسبتمبر (أيلول) حيث ذروة الحرارة التي تصل معدلاتها إلى 45 درجة مئوية.

وأعادت الأجواء الحارة خلال شهر الصوم للعام الرابع على التوالي ذكريات حفظتها ذاكرة الآباء والأجداد عن معاناة الصائمين في العقود الماضية وكيف تجاوزوا الصعوبات التي واجهوها وهم يؤدون الركن الرابع من أركان الإسلام.

ولا يعلم الجيل الجديد من السعوديين حجم معاناة الآباء والأجداد من وقوع شهر الصوم في فصل الصيف خلال العقود الماضية وقبل سنوات الطفرة وما صاحبها من نقلة كبيرة وتغييرات مفاجئة في أسلوب المعيشة لدى السكان. ويحمل كبار السن ممن تجاوزوا العقد الخامس من عمرهم ذكريات عن تلك السنوات ومظاهر رمضان في أجواء مختلفة، كما تختزن المنازل الطينية في المدن والقرى التي هجرها السكان إلى مساكن حديثة كنوزا من الذكريات مطمورة فيها وفي أزقتها عن الصوم ومظاهره ومعاناة ساكنيها من قضاء الشهر في أيام الصيف وأسلوب التعامل مع هذه الأجواء.

وكان معمَّرون قد اجمعوا على أن لا صعوبات في الصوم خلال الأجواء الحارة الحالية قياسا بالأجواء المماثلة قبل عشرات العقود حيث أشار ع. ف. (85 عاما) من سكان محافظة ضرماء إلى أنه صام رمضان في أجواء مختلفة وفي ظل ظروف بالغة الصعوبة، حيث كان يعمل في مزرعة الأسرة خلال نهار قائظ، وواجه متاعب كثيرة لدرجة تعرُّضه لحالة إغماء بسبب العطش والإجهاد، خصوصا في موسم صرام النخيل (إنزال التمور من رؤوس النخيل بعد اكتمال نضجها ووصولها إلى مرحلة التمر وتعبئتها في صناديق أو أكياس). وقال إنه يتذكر جيدا وهو صغير كيف كان والده «يعمل في رمضان بهمة ونشاط منذ الفجر وحتى وقت الضحى ليرتاح قليلا عند بركة الماء التي تسقي المزرعة ويؤدي صلاة الظهر في المسجد، ثم العودة للعمل في المزرعة، ولاحظت عليه الإجهاد في حين أن والدتي كانت تعمل في المطبخ لإعداد وجبة الإفطار التي لا تتعدى طبق الحساء (الشوربة) المعد من القمح الذي تنتجه المزرعة وطبق جريش أو مرقوق يصنعان من المادة نفسها، إضافة إلى القهوة والتمر، وأحيانا تجمّل المائدة بكميات من المريس (نقيع التمر) أو الأقط المجروش مضافا إليه الماء، إضافة إلى قطع من الإترنج المغموس بالماء لإطفاء لهيب العطش، في حين لا تتعدى وجبة السحور طبقا من الأرز، أو الجريش أو المرقوق أو المطازيز (رقائق من القمح تطهى مع اللحم والبصل والطماطم»، مشيرا إلى إن الأسر تتجنب إكثار الملح في كل وجبات السحور أو إعداد أكلات يحتاج من يتناولها إلى شرب كميات من الماء كالقرصان مثلا حتى لا يتسبب ذلك في إيجاد متاعب للصائم نهارا.

أما سعد الشويمان (80 عاما) فيحمل ذكريات عن شهر الصوم قبل أكثر من سبعة عقود، لعل أبرزها تلك الروائح التي تنبعث من مطبخ منزل في مقاطعة الوشم عندما تبدأ والدته الراحلة في إعداد وجبة الإفطار مستخدمة السعف والجريد والحطب في ذلك، وهو يتضور جوعا، انتظارا لحلول وقت الإفطار، موضحا أن روائح الأطعمة الرمضانية كانت تُشَمّ في جميع أرجاء المنزل إن لم يكن في كل أرجاء الحي. وقال إن القهوة والتمر يمثلان عاملا مشتركا في مائدة الإفطار في كل المنازل، في حين إن اللبن مطلب في وجبة السحور، أما الطبق الرئيسي، بل والوحيد فهو المرقوق مع قطع البصل المطبوخة أو قطعة من القرع أو خضار مع أرغفة القرصان الخالية من الملح. ويستعيد س. الفوزان 70 عاما من أهالي محافظة الغاط شيئا من معاناة السكان مع الصوم خلال أشهر الصيف، موضحا أن جميع أبناء القرى يعملون إما في الزراعة أو الرعي، لذا فإنهم يعانون من متاعب في النهار بسبب العطش، لدرجة أن البعض منهم يضطر إلى النوم إما بجوار القرب (مفرد قربة وهي أداة تبريد الماء مصنوعة من جلد الماشية) أو بالقرب من الأزيرة (أوان فخارية لتبريد الماء ومفردها زير)، كما أن البعض يضطر إلى النوم في حوض النخل المبلل بالماء، أو رش المياه على الملابس والسباحة في اللزاء (بركة تجميع المياه)، لافتا إلى أن هناك حالات إغماء وقف عليها أثناء صومه في مرحلة الشباب بسبب العطش الشديد وعدم وجود أجهزة طاردة للحر باستثناء «المهفة»، وهي مروحة يدوية مصنوعة من الخوص ولها مقبض خشبي مصنوع من جريد النخل. ويوضح مذكر القحطاني أن الشعثاء (خليط من التمر والأقط والسمن) يتم تناولها في وجبة الإفطار وهي منتشرة عند أبناء البادية، وقد انتقلت هذه الخلطة إلى الحاضرة وهي كما في زعمه مفيدة للصائم بعد ساعات كانت المعدة خالية كما أنها مفيدة لمن يعاني من الإعياء بسبب العطش.

ويمثل حي معكال، أحد أقدم الأحياء في العاصمة السعودية وأكثرها شهرة، نموذجا للأحياء التي أبقت على طابعها القديم وما زالت تحتفظ بمظاهر رمضان منذ عقود، وتقطن الحيَّ أقلية من السعوديين وأكثرية من المقيمين وجلهم من الجنسيات الإفريقية. و كانت روائح الأطعمة الرمضانية تُشَمّ في جميع أرجاء الحي وقد انبعثت من المنازل الطينية التي كانت أبوابها مُشرَعة وطالتها يد الترميم في حين أن كبيرات السن من النساء يفترشن الأزقة الضيقة أمام منازلهن وقد تحلقن معا في أحاديث شبه مكررة وهن يرمقن المارة، وغير بعيد عنهن انشغال أطفال بلعب كرة القدم ولم يخل المشهد من أطفال يحملون أطعمة متوجهين بها إلى مسجد الحي للمشاركة في تفطير الصائمين من العزاب أو العمالة، وهو عمل خيري لا تشوبه شائبة، حيث إن الأطعمة تعد بالمنازل من دون مقابل مادي أو عقود ضمن مشروع تفطير الصائم الذي كثر الحديث عن مشروعيته بعد اعترافات أحد المطلوبين أمنيا منذ سنوات أشار فيها إلى استغلال مشاريع إفطار الصائم وعوائدها المادية في أعمال إرهابية.

وفي الحي يجد محل بيع الفول ومخبز التميس الشعبي إقبالا منقطع النظير من قِبل السكان، ويقول قادر محمد صاحب المخبز إنه يبدأ العمل عقب صلاة العصر وقد ارتبط بعقود يومية مع العمالة التي تفضل هذه النوعية من الخبز ويتم تأمينها ووضعها في كراتين قبل وقت الإفطار.

في حين يرى آدم حسن بائع الفول في الحي، أن الإقبال على الفول في رمضان يتم وقت المغرب وخصوصا فول «القلابة» المضاف إليه الطماطم والبصل، أما فول الجرة فإن الطلب يتم عليه ساعة السحور، وينتشر في الحي بائعو ماء زمزم وهو ما يحرص الكثيرون على شربه ساعتَي الإفطار والإمساك، كما يوجد على استحياء بائعو شراب السوبيا التي تشتهر بصناعتها مدن الحجاز ويفضل تناولها في يوم صناعتها.

ورغم هذه الصورة التي بقيت عن رمضان في واحد من أعرق الأحياء الشعبية في العاصمة السعودية وأقدمها فإنه يمكن القول إن مظاهر رمضان قديما اختفى الكثير منها، ولعل القاسم المشترك في هذه المظاهر في الماضي والحاضر هو تحلق أفراد الأسرة على مائدة الإفطار التي تجمع ما لذ وطاب من الأطعمة الرمضانية المألوفة، خصوصا الشوربة والسمبوسة واللقيمات والمهلبية.

وخلال تناول هذه الأطعمة ينشغل الجميع بمتابعة المسلسلات التي تبثها الفضائيات، في حين انصرف الناس عن سماع الإذاعة وخصوصا المسلسل الإذاعي «أم حديجان» الذي كان يُبَثّ من الإذاعة السعودية قبل عقود وقبل انتشار التلفزيون والفضائيات. ووضعت الجهات المختصة ضوابط لاستخدام مكبرات الصوت في المساجد حيث ما زالت أصواتها التي تنبعث من المساجد معلنة دخول أوقات الصلوات والإقامة تمثل مظهرا من مظاهر رمضان، حيث يحرص أغلب أئمة المساجد على تأدية الصلوات وقراءة القرآن من خلال مكبرات الصوت، رغم أن أصوات البعض أصبحت مزعجة للساكنين حول المساجد ومصدر التشويش على المصلين، حيث إن بعض المأمومين يكبّر أو يسجد قبل إمامه من خلال أصوات أئمة مساجد أخرى.

وأجبر الزحام المروري ـ الذي أصبح سمة من سمات المدن السعودية وقتل متعة رمضان في نفوس الكثيرين ـ البعض على الامتناع قسرا عن التجول في المدينة وزيارة أسواقها ومحلاتها ومعالمها واستبداله بذلك زيارة الأحياء القديمة نهارا لاجترار ذكريات جميلة عن ماض تليد، حيث ما زالت هذه الأحياء تحتضن سكانها من السعوديين والمقيمين منذ فترة طويلة وحافظت على طابعها القديم ومنها مظاهر رمضان التي تعيد إلى زائريها والمارين في أزقتها ذكريات لا تُنسى عن شهر الصوم قبل عدة عقود، وتتمثل هذه المظاهر الباقية في رائحة الأطعمة التي تنبعث من المنازل الطينية، وهي روائح خاصة بأكلات رمضانية صرفة ارتبطت شرطيا بشهر الصوم، ولعل أبرزها شوربة كويكر، ورائحة الزيوت التي تُقلَى بها السمبوسة والبطاطس والفلافل واللقيمات. ومع أن طبق التمر هو السائد في مائدة الإفطار حيث يحرص الجميع في الزمن القديم والحديث على تناول التمر مع القهوة العربية، فإن هذا الطبق تحول في العقد الماضي إلى هم كبير للسكان، فقد انشغل الناس بالحديث عن التمر وكيفية تخزين البلح والرطب منه، رغم أن هناك أحداثا لافتة على المستوى المحلي والإقليمي والعالمي لم تجد ذلك الاهتمام الذي يجده الحديث عن التمور والرطب والبلح، وكيفية حفظ الأنواع الجيدة منها لاستخدامها لاحقا عقب انتهاء الموسم، خصوصا لشهر رمضان. وتزامن رمضان الحالي مع موسم جني الرطب، وأقيمت في مناطق إنتاجه مهرجانات خاصة به حيث عرض المزارعون إنتاجهم منه وأقيم لهذا الغرض عدد من المهرجانات الخاصة بالتمور لعل أبرزها المهرجان الذي أقيم بهذا الخصوص في كل من مدينتي بريدة وعنيزة، كما شهدت أسواق العاصمة السعودية منذ أسابيع ومع بدء حلول موسم التمور مهرجانات مماثلة لعرض الأنواع المختلفة من التمور التي تجلب من مزارع العاصمة ومن خارجها حيث يشهد رمضان طلبا أكثر للتمور، كما عرض مورّدو وبائعو الأواني البلاستيكية والكرتونية آخر ما توصلت إليه مصانع الورقيات وأدوات حفظ الأطعمة، لتحقيق رغبات الكثيرين، وإرضاء أذواق راغبي حفظ الرطب والبلح، اللذين بدأ موسمهما منذ أسابيع، في حين بقيت أنواع معروفة من الرطب لم تُطرح بعد في الأسواق لعدم اكتمال نضجها. ونشطت محلات بيع أجهزة تبريد وحفظ الأطعمة لعرض أنواع وأحجام مختلفة منها، تحسُّبا للإقبال الكبير الذي ستشهده محلاتهم من الراغبين في اقتناء هذه الأجهزة. وسجلت محلات الصيانة للأجهزة الكهربائية وأدوات التبريد أرقام مبيعات كبيرة أمام إقبال البعض على صيانة ما يملكون من أجهزة لاستخدامها في حفظ التمور.

وحرص بائعو التمور على عرض أنواع من منتجات المناطق السعودية من ثمرة النخيل، وسجلت أسواق التمور إقبالا كبيرا من المشترين الذين حرصوا على شراء كميات كبيرة لاستخدامها في رمضان ولاحقا عقب انتهاء الموسم.

ومنذ أسابيع لا همّ يطغى على اهتمامات شريحة كبيرة من السكان سوى التمر، واستحوذ ذلك على أحاديث المجالس ومكاتب الموظفين وزائري قصور الأفراح، خصوصا في المناطق الوسطى والمدينة المنورة والأحساء وبيشة، حيث تشتهر هذه المناطق بزراعة النخيل وإنتاج أنواع مختلفة من التمور، وتركزت الأحاديث على كيفية حفظ التمور في الثلاجات والمبردات لتناولها بعد انتهاء رمضان والموسم، خصوصا في شهر الصوم، حيث يفضل الصائمون تناول الرطب بدلا من التمور، التي تُعتبر آخر مراحل تصنيع واستخدام ثمرة النخلة، وما يسمى بالتمر المكنوز. ويُعتبر حفظ الرطب لتناوله لاحقا في غير موسمه أسلوبا جديدا داخل البيوت في السعودية، حيث بدأ في الظهور قبل عقد من الزمن نظرا إلى توفر أدوات الحفظ من خلال أجهزة التبريد المختلفة وحلول شهر الصوم في فصل الشتاء خلال السنوات الماضية حيث لا وجود للرطب في هذا الوقت، ويفضل السكان حفظه في علب من الكرتون المقوّى مع لف الرطب بمناديل ورقية سميكة منعا لوصول الرطوبة إليه في أثناء تخزينه في أجهزة التبريد وإحكام إغلاق العلب جيدا، ثم إخراج محتوياتها من الرطب قبل تناولها بساعة على الأقل، خصوصا ساعة الإفطار في رمضان حيث يمثل التمر مطلبا للصائمين، بل إن البعض وصل بقناعاته تجاه التمر إلى حد يرى أن عدم تناوله وقت الإفطار يبطل صومه!