صائمون يصارعون اللحظة الحرجة

على الطريق وقبل دقائق من مدفع الإفطار

تقديم المساعدات خلال شهر رمضان («الشرق الأوسط»)
TT

ما هي إلا دقائق وينطلق مدفع الإفطار.. «يا الله، كل هذا الزحام، هل سأفطر في الشارع، من دون أسرتي ووالدتي.. يارب ارحمني».. لم يكد أحمد ينهي كلامه المسكون بالغضب من خنقة المرور في شوارع القاهرة، حتى باغته مدفع الإفطار. لكنه، من دون أن يدري وهو جالس في عربته امتدت إليه يد بحبّات من التمر، وأخرى بالعصير، وأخرى بلفّة من الخبز محشوة باللحم والخضار.. وتدعو له بأن يتقبل الله صيامه». في القاهرة ومعظم أقاليم مصر، يتحول رمضان إلى سباق من نوع خاص لفعل الخير، والتخفيف عن الصائمين. فمنذ عدة سنوات، ينظم بعض رجال الأعمال والمتطوعين، حملات عرفت في الشارع المصري باسم «وزع تمرة». بدأت بمبادرة من شباب الجامعات، تستهدف توزيع ما يفطر به الصائمون، سواء في سياراتهم أو المترجلين، الذين صادفهم سوء الحظ فتأخروا، أو أولئك من ذوي المهن التي تستوجب الإفطار في الشارع، بعيدا عن مائدة الأسرة. بدأت الحملة في البداية، بإعطاء الصائم عبوة عصير، أو كوبا من الورق المقوى به مشروب رمضاني، مع ثمرات من التمر، أو البلح، أو حتى البسكويت، يصاحبها عبارات رقيقة من قبيل: «إفطارا هنيئا» أو «ادعوا لنا بالخير». وتطورت الأحوال، فأصبحت الأمور البسيطة أكثر تنظيما، حيث صارت البلحات القليلة وجبة متكاملة مغلفة مع عصير منعش، في عبوة معدة مسبقا لهذا الغرض، مما اصطلح على تسميته «وجبات الإفطار المحمولة». والطريف أن هذه الوجبات، تتفاوت في شكلها ومحتواها، تبعا للمكان. ففي الأحياء الراقية، قد تحمل على غلافها اسما من أسماء المطاعم الفخمة، وقد تحتوي على شطائر اللحم المشوي، أو الشاورما، أو الدجاج وخلافه، مع السلاطات «المزات» والعصائر.

أما في الأحياء الأكثر شعبية، فقد يكون المحتوى، المغلف في رقاقة معدنية على الأرجح، شطائر من الفول والطعمية، مع قليل من «الطرشي».

وفي بعض الأحيان، تتحول الوجبات البسيطة إلى «مائدة رحمن»، دونما ترتيب مسبق، حينما يتكاتف العازم والمعزوم، على مؤخرة إحدى السيارات المتوقفة اضطراريا، أو حتى يفترشون الأرض بعفوية فوق غطاء تبرع أحدهم بفرشة، في لحظة انطلاق الأذان، فتجد الجميع متجاورين، يتعازمون، كل بما لديه، لكنها لحظات قصيرة، لها جمالها الخاطف، ما تلبث أن تنتهي، وينفض كل إلى جهته، ليكمل طقوس إفطاره مع ذويه.

«الثواب إحساسه جميل».. بهذه العبارة يلخص محمد (22 عاما) المشهد، ويضيف «فما أجمل شعوري وأنا أطعم صائما أو أسقيه شربة ماء، وأرى على ملامحه آيات الارتواء وحمده لله بعدها، مع ابتسامة شكر، شعور لا يوصف».

أما الحاج إبراهيم فيقيم مائدة الرحمن منذ 20 عاما، لكنه رأى أن بعض المارة في لحظة الإفطار لا ينتفعون بالمائدة، فقرر إضافة بعض «الوجبات المحمولة»، التي يقوم بتوزيعها بنفسه على المارين بالشارع. وفي شارع جامعة الدول العربية، الشهير بشارع العرب، بمحافظة الجيزة تتجاور الملامح والمطاعم التي تعد وجبة الإفطار، كما ترى الكثير ممن يوزعون الوجبات المحمولة، على مسافات شديدة التقارب، مما يثير أحيانا بعض التعليقات اللطيفة. فمن واقع خبرته كسائس سيارات بالشارع يقول مصطفى سيد، أحد متلقي الوجبات، ضاحكا: «أنصحكم بأخذ الوجبة من الشخص الواقف على الناصية الثانية، فقد جربت كل الوجبات في الأيام الماضية»، وبالطبع وعلى رأي مصطفى أيضا «اسأل مجرب ولا تسأل طبيب».

أما في حي شبرا، أحد أزحم وأقدم أحياء القاهرة، فتشتهر مائدة «المقدس نصر»، وهو مسيحي ومن أشهر تجار الحي، المشهور بكثرة مسيحية. يقيم نصر المائدة منذ نحو 15 عاما بالاشتراك مع جيرانه المسلمين والمسيحيين. وسايروا التطور الحالي، وصاروا يقدمون الوجبات المحمولة إلى المارين في اللحظة الحرجة.

الأمر نفسه، في شارع العروبة، القريب من ميناء القاهرة الجوي، حيث تتحول الحديقة الوسطى بالشارع لحظة الإفطار، إلى مائدة تنعكس في أطباقها الخضرة، وفطرة الروح والقلب، ولا يملك كل من يفترش الحديقة في هذه اللحظة الحرجة إلا الدعاء للحاجة سعاد التي تقطن الشارع، واعتادت منذ أكثر من 15 عاما تقديم وجبات الإفطار إلى كل من تقوده خطاه بالقرب من منزلها عند غروب شمس رمضان.

تروي الحاجة أن بداية الفكرة «كانت مع التشريفات، مع مرور مواكب الرؤساء، والتي يواكبها تواجد أفراد الشرطة لساعات طوال بالشارع، وأنها لرقة قلبها لم تستطع رؤية الجنود الصائمين الواقفين هكذا، فاستأذنت من الضابط المسؤول أن تقدم لهم ما يفطرون به، فأصبحت عادة، يتسع نطاقها من رمضان إلى آخر، كل عام».