المسحراتي.. مهنة الثلاثين يوماً تستعد للدخول في ذمة التاريخ

الفضائيات تهدّد بزواله

المسحراتي مهنة في طريقها إلى الانقراض («الشرق الأوسط»)
TT

يتميز شهر رمضان بخصوصيات تتعدى الروحانيات في معظم الدول الإسلامية، وإلى جانب ارتباط الشهر بالوجبات الغذائية والمشروبات المتنوعة، فإنه أيضا يتميز بتوفر مهن خاصة به، لا يمكن أن تأتي إلا معه، ويطلق عليها البعض مهن الثلاثين يوماً، أهمها على الإطلاق عمل «المسحراتي».

وبات العديد يؤكدون أن مهنة المسحراتي تسير نحو الزوال، بسبب اتجاه الناس للسهر مع الفضائيات لساعات الفجر الأولى، مما يجعل عمل المسحراتي غير ذي جدوى، خاصة أن من يقوم بهذه المهنة مهمته إيقاظ النائمين ليتناولوا وجبة السحور استعدادا لإكمال يوم طويل من الصوم، يوقظ الناس من النوم خلال شهر رمضان المبارك بطبلته الصغيرة التي يحملها في رقبته، فتتدلى إلى صدره أو يحملها بيده ويضرب عليها بعصا خاصة.

وترى عائشة أحمد، من سكان مدينة جدة القدامى، أن صوت المسحراتي الجهير والمميز ارتبط بالشهر الكريم، وكانت أهازيجه تحتوي على بعض الأذكار والأدعية، ويجوب الحارات بفانوسه الصغير الذي ينير له الطريق ليوقظ النائمين، معلنا عن موعد السحور، وكان أحياناً يقوم بالطرق على الأبواب لإيقاظ النائمين، فيقدم الأهالي له بعض النقود أو طعام السحور، ويستمر المسحراتي بأداء وظيفته حتى آخر ليلة من الشهر الكريم فتقدم له «العيدية»، التي هي عبارة عن ملابس أو كعك ولحم العيد وبعض المال.

العم، صالح محمود، أحد كبار السن في مدينة جدة، يتذكر المسحراتي بقوله «كان لكل حارة من حارات جدة القديمة (حارة المظلوم والسبيل وحارة اليمن وباب شريف وحارة الشام) مسحراتي خاص بها، يبدأ عمله في آخر الليل قبل موعد السحور بساعتين تقريبا، يتجول في الحارات وينادي ببعض الكلمات والأهازيج بصوته الجهور».

لكن تطور العصر وتغير نمط الحياة ووجود وسائل الإعلام، التي جعلت الناس يسهرون للفجر ولا يحتاجون للمسحراتي، بدأت هذه المهنة تنقرض وتصبح من الفلكلور والتراث الشعبي، وإن كانت لا تزال موجودة في بعض القرى الشعبية، فهناك بعض الأصوات المسحراتية التي لا تزال تجوب شوارع الريف والأحياء الشعبية في إصرار كبير على المقاومة، خاصة أنها تجد من يتقبلها ويعتبرها من أهم المهن الرمضانية المميزة للشهر الكريم.

وارتبط بهذه المهنة بعض الأهازيج، التي تختلف من منطقة لأخرى، وقد تحدث محمد صادق دياب في كتابه (جدة التاريخ والحياة الاجتماعية) عن المسحراتي، حيث قال فيه، إن المسحراتي يستهل التسحير بقوله (اصح يا نايم وحّد الدايم)، وهذا نص استهلال المسحراتي الذي نسمعه من الإذاعة المصرية، أما مسحراتي جدة فكان يقول (قوم يا نايم اكسب الغنايم، قوم يا نايم اذكر الحي الدايم). وفي مصر كان المسحراتي هو نفسه المؤذن بالجامع وينادي بالآية الكريمة (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون). وفي الكويت يسمى المسحراتي (أبو طبيلة) الذي يردد بعض الأدعية. أما في السودان فيطرق المسحراتي الباب ومعه طفل صغير يحمل فانوساً ودفتراً ينادي بأسمائهم (يا عبد الله وحد الدايم ورمضان كريم).

أما في دول الشام وفلسطين وسورية ولبنان وقبل بدء شهر رمضان، فيكتب على كل بيت اسم صاحبه حتى ينادي عليهم أثناء السحور. وقد استطاع العديد من الفنانين والمخرجين والشعراء، أن ينقلوا صورة المسحراتي بشكل دقيق إلى شاشة التلفزيون وميكرفون الإذاعة، ليجسدوا الشخصية بحسب بلدتها ومنطقتها. ويعد بلال بن رباح، أول مسحراتي في التاريخ الإسلامي، حيث كان يجوب الشوارع لإيقاظ الناس بصوته العذب طوال الليل، وكان صلى الله عليه وسلم يقول «إن بلالا ينادي بالليل فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم»، وكان ابن أم مكتوم هو الذي يتولى أذان الفجر، ومن ذلك الوقت أصبح المسحراتي مهنة رمضانية خاصة.

وسيظل المسحراتي ذكرى من ذكريات رمضان الجميلة التي اندثرت وانتهت، وقد جذبت شخصيته الكثير من الرحالة والمستشرقين الذين زاروا الوطن العربي وتحدثوا عنه مبدين دهشتهم واستغرابهم مما شاهدوه، فالرحالة المغربي ابن الحاج، الذي جاء إلى مصر في العصر المملوكي في عهد الناصر محمد بن قلاوون، تحدث عن عادات المصريين وجمعها في كتاب، وقال عن المسحراتي، إنه تقليد لم يعرفه في بلاده، وذكر أن المسحراتي ينادي ويغني في شوارع القاهرة، أما في الإسكندرية فيطوف ويدق على البيوت بالعصي.

المستشرق الانجليزي، إدوارد وليام لين، الذي زار مصر وعاش بها لفترة طويلة وتعلم اللغة العربية خلال القرن التاسع عشر في عهد محمد علي، وأعجب بالعادات والتقاليد والاحتفالات بقدوم رمضان، تحدث عن عادات المسحراتي، وذكر نصوص الأغاني التي يتغنى بها والنوتة الموسيقية الخاصة بكل أغنية.