رئيس العلماء المسلمين في البوسنة لـ «الشرق الأوسط»: الإسلام يعلمنا أن نتحرّر من الجوع ومن الخوف

رمضان في بنيالوكا.. والمسلمون المتمسكون بدينهم لم يفقدوا الأمل في تحسن أوضاعهم

د. مصطفى تسيريتش رئيس العلماء في البوسنة
TT

بنيالوكا المنسيّة، قصة مسلمين يعيشون رمضان وباقي شهور السنة في أجواء أشبه ما تكون بما كانت عليه مكة قبل الفتح. بيد أن المسلمين المتمسكين بدينهم لم يفقدوا الأمل في تحسن أوضاعهم على كافة المستويات، وفي مقدمتها الأمن والحياة الكريمة. وهم كما يقول الدكتور مصطفى تسيريتش رئيس العلماء في البوسنة يناضلون من أجل أمرين مهمين في الحياة الإنسانية، وهما «الحقيقة والعدالة»، ويعيشون أجواء رمضان كما لو كانوا في مكان آخر غير الذي عهدوه وعرفوه وخبروه. وهنا تبرز أهمية الروحانيات في تجاوز الإكراهات الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، فروحانية رمضان لا تستشف بكثرة أكل، وإنما شعور تصقله العبادة، فإذا غاب الشعور تحولت العبادة إلى مجرد جوع وعطش، وقيام وركوع، فاقد الغائية.. أحيانا يكون الخوف والجوع ونقص الأموال والثمرات، زيادة في الشعور بروحانية رمضان، وبروحانية الإسلام عامة، والقرب من الله. وأحيانا يكون الأمن والشبع والغنى وبحبوحة الدنيا، سببا في الإسراف والتبذير والخيلاء والكبر والبطر، وحتى الكفر بأنعم الله، والاعتداء والعدوان على خلق الله. وهذا ما يلاحظه المرء في بنيالوكا، وغيرها من مدن العالم. في بنيالوكا (المدينة) لا توجد مساجد، فهي من المدن القليلة في العالم التي لا يرفع فيها الأذان، ليس لعدم وجود مسلمين بها، فالمسلمون هم من بنوها، وإنما لأن العدوان التي تعرضت له المعالم الإسلامية في بنيالوكا خاصة والبوسنة عامة، كان عدوانا ثقافيا بامتياز، وهو أحد أبرز أبعاد العدوان البربرية. ولأنه كذلك فقد كانت المساجد،عرضة للتفجير والهدم والتدمير، بل حتى مقابر المسلمين طالها العدوان والنسف والقصف والتجريف.

لذلك تعتبر عودة المهجرين إلى ديارهم، بتعبير محمد كلوكيتش أحد الوجوه السياسية للمسلمين في بنيالوكا، شجاعة كبرى ومجازفة أحيانا، «عندما نشاهد أن الكثيرين اتخذوا قرار العودة إلى البوسنة، ينمو الأمل فينا أكثر بأن هناك مستقبلا للإسلام والمسلمين في هذه الأرض، وهذه البقعة العزيزة علينا».

وقال ميرصاد فيلاجيتش المحافظ السابق لإقليم بيهاتش لـ«الشرق الأوسط»، «نأمل أن يكون بعد العسر يسر، وسنعمل كل ما في وسعنا لعودة كل مهجّر إلى بيته، توفير التعليم لأبناء العائدين، فالتعليم هو المستقبل». أما السياسي رمزي قدريتش فقد ذكر لـ«الشرق الأوسط» أنه «من أجل البقاء، يجب أن نحافظ على أمرين، الحرص على الإسلام لأنه روحنا التي نفنى بموتها، والحفاظ على أرضنا التي ليس لنا أرض غيرها، ولا وطن بديل عنها».

وقال الشيخ أدهم تشامجيتش مفتي بنيالوكا لـ«الشرق الأوسط» ان المسلمين الذين هجروا إلى استراليا والولايات المتحدة الأميركية والدول الأوروبية « لم ينسوا البوسنة، ولديهم رغبة في العودة عندما تتحسن الظروف «وأنه يوجد في إقليم بنيالوكا 38 إماما يعلمون أبناء المسلمين دينهم. وأضاف، إذا ضاقت أوروبا بالمساجد وبالمسلمين، فستضيق آفاقها حتى تحارب الكنائس بعضها بعضا كما كان في السابق، بين روما وبيزنطة، بل ستضيق آفاقها أكثر. أما محمد أفندي سالكيتش فقد شدد على أن الشعور الذي يسكن أهالي بنيالوكا المسلمين هو أن البوسنة بحدودها الدولية، هي الدولة التي ينتمون لها، وليس مناطق الفيدرالية فحسب، كما يريد أن يكرس ذلك الصرب. ويصلي المسلمون اليوم الصلوات المفروضة والتراويح في مستودعات أو منازل بعضهم، أما الإفطار فقد استعاد المسلمون بعض ممتلكاتهم ومن بينها عدد من المقاهي والمطاعم. حيث حضرت «الشرق الأوسط» إفطارا جماعيا نظمه الشيخ أدهم تشامجيتش مفتي بنيالوكا، وحضره عدد من رموز الانتلجنسيا في البوسنة مثل الكاتب والشاعر جمال الدين لاتيتش، والروائي إسلام تاليتش، ومن السياسيين رئيس حزب العمل الديمقراطي سليمان تيهيتش، وغيرهم. كان الإفطار بمثابة فتح حضاري، بالنسبة للبعض، حيث يتناول المسلمون وجبة الإفطار، في مكان كان ولوقت قريب أخطر مكان في العالم، وكانت الحجارة تنسف لعلاقتها بمسجد، ويقتل الناس على الهوية، حسب الأسماء العربية التي يحملها المسلمون. وبالنسبة لآخرين كان الحدث، مجرد رمي حجر في ماء راكد، فالإفطار لا يعبر عن حقيقة الأوضاع في بنيالوكا. و«المسلمون لم يعودوا إلى مقار أعمالهم التي طردوا منها أثناء الحرب، ولم يعد جميع المهجرين إلى ديارهم، وجميع من عادوا لا يتجاوزون 15 ألف نسمة، وذلك بسبب فقدان الخدمات الأساسية إذ يضطر المسلمون لدفع رسوم على المعايدة الصحية، بينما يعفى الصرب من ذلك». «ولا توجد مدارس محايدة فالمدارس في بنيالوكا تسيطر عليها الأكاذيب الصربية ولا سيما فيما يتعلق بتاريخ البوسنة، وما جرى في تسعينات القرن الماضي من مجازر ومذابح بحق المسلمين». و«لا توجد طرق صالحة، فجميعها تم تخريبها من قبل الصرب في الحرب. ولا توجد آلات زراعية لإفلاح الأرض فقد صودرت من قبل الصرب أثناء العدوان. ولا يوجد عمل، فالذين عادوا يعيشون على مساعدات ذويهم العاملين في الخارج، أو المساعدات النادرة جدا التي تقدمها المؤسسات الإغاثية». وهناك من البوشناق المسلمين من يعتقد أن «موجة جديدة من التهجير تنتظر المسلمين في مناطق السيطرة الصربية». رمضان في بنيالوكا رحمة للفقراء، فهو شهر مختلف، إذ أنه الشهر الوحيد الذي يقدم فيه الطعام مجانا، وهو الشهر الوحيد الذي يذوق فيه الكثير من المسلمين طعم اللحم، سواء كان ذلك لحوم أبقار أو لحوم خراف العيد المجمدة. ويشكو المسلمون في مناطق السيطرة الصربية من الإهمال من قبل المؤسسات الاغاثية وحتى الجهات المعنية في مناطق الفيدرالية. ورغم ذلك هناك مساحات فرح وأمل للعائدين، لا سيما عند إعادة بناء مسجد جديد من المساجد التي تعرضت للتدمير على يد الصرب في القرى القريبة من بنيالوكا. كالذي حضرت افتتاحه «الشرق الأوسط»، حيث بدأ الاحتفال بإعادة بناء أحد المساجد الـ 16 التي هدمها التشتنيك الصرب أثناء العدوان بقراءة القرآن الذي كان يصدع عبر مكبرات الصوت، ينشر الأمل في القرى والهضاب والسهول المجاورة. ثم الأناشيد الإسلامية التي لها وقع كبير على المجتمع الإسلامي في البوسنة خاصة والبلقان عامة. ومنذ الصباح بدأت الحافلات القادمة من مختلف أنحاء البوسنة تتوافد على المنطقة محملة بالمؤمنين. وكان من بين الحضور الدكتور مصطفى تسيريتش رئيس العلماء في البوسنة، والشيخ أدهم تشامجيتش مفتي بنيالوكا، وأئمة ومسؤولون في المشيخة الإسلامية، وأعضاء في حزب العمل الديمقراطي، ووزراء مسلمون في حكومة، «جمهورية صربسكا». ومن بين الشخصيات الثقافية والسياسية التي حضرت عثمان بركة، ومنصور شاهاغيتش، ورمزي قدريتش، وعزيز بيغوفيتش، وجمال الدين لاتيتش وآخرون. ويقع المسجد الذي يتسع لنحو ألف مصل على هضبة خضراء تطل على مساحات واسعة، وبه 12 نافذة، وتعلوه قبة كبيرة و3 قباب صغيرة يتوسطه محراب غاية في الإبداع ومنبر خشبي منقوش، وعلى مساحة تحتل نصف المسجد توجد سدة أو طابق خاص بالنساء. وفي ساحة المسجد أقيمت نافورة ماء جميلة، في ظل شجرة وارفة، يحيط بها سور صغير، أضفت جميعها على المكان لمسة روحية فريدة. وهي ظاهرة في أغلب مساجد البلقان، وهي توحي بقيمة النظافة في الإسلام. وقد تحولت ساحات المسجد إلى مهرجان كبير، حتى أن بعض التجار استغلوا هذا التجمع الكبير لعرض ما لديهم من سلع، إضافة لبيع السجاد والمسابح والملابس والهدايا المختلفة. وحضر عدد كبير من القادمين للاحتفال ولا سيما الضيوف، وليمة الافتتاح. ويتذكر المسلمون في بنيالوكا في رمضان بل في كل لحظة جامع الفرهادية الذي هدمه الصرب في 7 مايو 1993، وهو اليوم الذي يحيي فيه المسلمون في البوسنة من كل عام يوم المساجد. وجامع الفرهادية لم يعاد بناؤه حتى الآن بالكامل، وإن كان الشروع في إعادة بنائه قد بدأ منذ عام تقريبا، وسيستغرق ذلك وقتا طويلا لقلة الاعتمادات المالية المخصصة له، وهو يحتاج بين 10 و15 مليون يورو تقريبا. كما يتذكر المسلمون المدرسة الإسلامية في بنيالوكا التي كانت واحدة من أهم حواضر الإسلام في غرب البلقان، مثلها مثل مدرسة الغازي خشرف بك في سراييفو. وهناك مساع لإقامة مدرسة إسلامية، لكن طموحات الشيخ أدهم تشامجيتش المفتي بنيالوكا تحول من دون تحقيقها الاعتمادات المالية، «عصب الحياة قوام كل عمل يرنو للبناء في المعركة من أجل البقاء». وقال الدكتور مصطفى تسيريتش «سيظل أملنا معلقا بذلك اليوم الذي نفتتح فيه الفرهادية، ولن نشعر بالراحة والاطمئنان حتى نشهد ذلك اليوم». وقال «كلما ضايقونا أكثر ازددنا تمسكاً بالإسلام.. الكذب ينجلي ويتبخر، والحقيقة هي التي ستبقى وتستمر». وأعرب عن أمله بأن «يكون هدم المساجد شيئاً من الماضي، وأن يكون إعمار المساجد هو الحاضر والمستقبل». وذكر بأن «القوة تكمن في الإرادة، والنصر في الصبر، والنجاح في المثابرة». وأنه «ليس هناك أحلى ولا أفضل ولا أسعد من العيش في الوطن». ودعا المسلمين إلى «التحرر من الخوف والتحرر من الفقر، ففي البوسنة هناك الكثير من الفقراء والكثير ممن يعيشون في خوف». وقال إن «البوسنة لجميع سكانها، وطوائفها وعقائد أهلها، ولذلك دعا المفتي أدهم تشامجيتش ممثلي مختلف الديانات لحضور هذه المناسبة العزيزة على المسلمين «وختم حديثه بحكمة للرئيس الراحل علي عزت بيجوفيتش رحمه الله وهي، «الجميع يعتقد بأنه يحكم البوسنة، لكن البوسنة تحكم نفسها». وقد كشفت زيارتنا إلى بنيالوكا أن الأقلية تحافظ على دينها، في أغلب الأحيان، أكثر من الأغلبية. فالمسلمون في بنيالوكا متمسكون في معظمهم بالفرائض بمن في ذلك الوزراء في حكومة «جمهورية صربسكا». كما أن حب الإسلام وحده، هو ما يمكن به تفسير أسرار الاحتفالات الكبرى التي يقيمها المسلمون في بنيالوكا والبوسنة عموما، والبلقان بشكل أوسع، برمضان والاحتفاء بالمساجد.