شهر القرآن (3) «إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ»

د. عائض القرني

TT

هجوم أدبي كاسح، وتهديد رباني ماحق ساحق، لأعداء محمد صلى الله عليه وسلم وخصومه ومبغضيه، وهذا ذب عن شخصه الكريم، ودفاع عن مقامه العظيم، فإذا كان المدافع الحامي والناصر هو الله فلتقر عينه صلى الله عليه وسلم بهذا النصر والدفاع والولاية، وشانئه صلى الله عليه وسلم لا يكون إلا كافرا ماردا حقيرا خسيسا؛ لأنه ما أبغضه إلا بعد ما أصابه بخذلان، وكتب عليه الخسران، وأراد له الهوان، وإلا فإنسان مثل الرسول صلى الله عليه وسلم يوجب النقل والعقل حبه، إذ لو كان الطهر جسدا لكان جسده صلى الله عليه وسلم، ولو كان النبل والسمو صورة لكان صورته بأبي هو وأمي، فهو منتهى الفضيلة، وغاية الخصال الجميلة، والمستحق للوسيلة، وصاحب الدرجة العالية الرفيعة الجليلة، فكان الواجب على من عنده ذرة رأي، وبصيص من نور، إذا كان يحترم عقله أن يحب الإمام العظيم لما جمع الله فيه من الفضائل، ولما حازه من مناقب، لكن واحسرتاه، على تلك العقول العفنة، والنفوس المتدثرة بجلباب الخزي، القابعة في سراديب البغي، الراتعة في مهاوي الرذيلة، كيف عادته مع كماله البشري، ومقامه السامي، فكأنه المقصود بقول الشاعر:

«أعادي على ما يوجب الحب للفتى وأهدأ والأفكار في تجول»..

وقول الآخر:

«إذا محاسني اللاتي أُدل بها كانت ذنوبي فقل لي كيف أعتذر؟»..

«هو الأبتر»: أي مقطوع البركة والنفع والأثر، فكل من عاداك لا خير فيه ولا منفعة من ورائه، أما أنت فأنت المبارك أينما كنت، اليُمن معك، السعادة موكبك، الرضا راحلتك، البركة تحفك، السكينة تغشاك، الرحمة تتنزل عليك، الهدي حيثما كنت، النور أينما يممت، وأعداؤه صلى الله عليه وسلم قالوا: إنه أبتر لا نسل له ولا ولد، فجاء الجواب مرغما لتلك الأنوف، واضعا لتلك الرؤوس، محبطا لتلك النفوس، فكأنه يقول: كيف يكون أبتر وقد أصلح الله على يديه الأمم، وهدى بنوره الشعوب، وأخرج برسالته الناس من الظلمات إلى النور؟

كيف يكون أبتر والعالم أشرق على أنواره، والكون استيقظ على دعوته، والدنيا استبشرت بقدومه؟

كيف يكون أبتر والمساجد تردد بالوحي الذي جاء به، والحديث الذي تكلم به، والمآذن تعلن مبادئه، والمنابر تذيع تعاليمه، والجامعات تدرس وثيقته الربانية؟

كيف يكون أبتر والخلفاء الراشدون نهلوا من علمه، والشهداء اقتبسوا من شجاعته، والعلماء شربوا من معين نبوته، والأولياء استضاءوا بنور ولايته؟

كيف يكون أبتر وقد طبق ميراثه المعمورة، وهزت دعوته الأرض، ودخلت كلمته كل بيت، فذكره مرفوع، وفضله غير مدفوع، ووزره موضوع؟