رمضان المدينة المنورة.. المدنيون يصومون على وقع الأدب والثقافة

ملاذ الباحثين عن نسائم رمضان وروحانيته والمتعبين من مكابدات الحياة

الكثير من الأنشطة الثقافية والاجتماعية والرياضية تزخر بها ليالي رمضان في المدينة المنورة («الشرق الأوسط»)
TT

شهر رمضان في المدينة المنورة ليس ككل الشهور، وليس كما هو في أي مدينة غير مدينة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، حيث يتفرد هذا الشهر الكريم في هذه المدينة المنورة بالمسجد النبوي الشريف، بعادات وتقاليد ونشاطات ثقافية واجتماعية متميزة، يغلب عليها الطابع الروحاني منذ غرة هذا الشهر.

وعادة ما تشهد المدينة المنورة في هذا الشهر توافد عدد كبير من الزوار، ليس فقط من كل مناطق السعودية، بل من كل أصقاع الدنيا القادمين برا وبحرا ليستمتعوا بروحانية هذه الأيام المباركة في رحاب المدينة الطاهرة.

وتتنوع الصور الرمضانية المتميزة، التي منها كثافة الحركة حول المسجد النبوي الشريف، وحدوث تغيرات في أوقات وأساليب الطعام والشراب وساعات النوم والسهر وشكل النشاطات القائمة سواء كانت ثقافية أو اجتماعية.

ويتذكر عدد من المهتمين الصورة الفلكلورية الشعبية الاجتماعية الثقافية التراثية للمدينة المنورة، بدءا من الأهازيج الشعبية الجميلة التي يرددها الصغار قبل قدوم شهر رمضان في أبهى لوحة شعبية تجسد الفرحة الكبيرة بالشهر الكريم.

وعند نهاية شهر رمضان يتغنى الصغار بأهازيج مساء اليوم التاسع والعشرين منه، ليلة «الشك»، حيث يجوبون شوارع وحارات المدينة المنورة القديمة، مرددين أهازيج تتميز بالبساطة والدعابة الروحانية.

وإن كانت هناك بعض المظاهر الرمضانية الشعبية الجميلة القديمة بدأت تختفي منذ سنوات، إلا أنها ما زالت تعتبر من مميزات هذا الشهر، مثل «المسحراتي» الذي يجوب حارته التي ينتمي إليها، حيث كان لكل حارة وحي مسحراتي خاص يقوم في الساعات الأخيرة من كل ليلة من ليالي الشهر الكريم بجولة في نطاق حارته حتى لا يدخل في نطاق الحارات الأخرى ويحمل طبلة صغيرة يضرب عليها بضربات مموسقة ومتناسقة، منشدا أهازيج جميلة وشجية، مناديا في الناس للنهوض من النوم ومن ثم تناول طعام السحور، داعيا الله لهم بالقبول وبسحور هنيء.

وكان المسحراتي فيما قبل ذلك يمارس الطرق على أبواب بعض السكان لإيقاظهم من النوم، ويقدم له الأهالي بعض النقود والطعام، أو يدعونه لتناول السحور، معهم ويستمر المسحراتي بأداء مهمته حتى آخر ليالي الشهر الكريم، فيما يقدم له البعض ملابس وزكاة الفطر وبعض المال، كعيدية.

وعلى الرغم من أن كثيرا من مواريث رمضان الدينية والثقافية بدأت تندثر مع مرور الأيام، فإن هذا الشهر الكريم يظل موسما تتجدد فيه الحياة، ويبقى فيه القرآن الكريم حاضرا بشكل كبير، قراءة ودراسة لتفسيره، بالإضافة إلى السيرة النبوية العطرة.

ومع كل ذلك يبقى أيضا رمضان اليوم مختلفا، ليس بالمقارنة مع بقية شهور السنة، بل بالمقارنة مع صورته الذهنية، التي رسمتها في السيرة النبوية في الذاكرة، وأزمنة الطُهر الأولى، ولا ينظر إليها من وجهة سوسيولوجية محضة، فهو موسم ثقافي مختلف بحسب ما يؤثث به من حمولات، وما يحدد من أطر وما يقترف فيه من سلوك.

لذلك تجد حتى النشاطات الثقافية المدنية تستمد روحها من عظمة هذا الشهر الكريم في هذه المدينة جليلة القدر، وما يتجلى فيها من صور رائعة.

وفي هذا الخصوص، قال الأديب والناقد السعودي محمد الدبيسي، نائب رئيس نادي المدينة المنورة الأدبي، إن «نادي المدينة دأب منذ سنوات تأسيسه الأولى على إقامة مسابقة حفظ القرآن الكريم ضمن نشاطه الثقافي الذي يناسب خصوصية شهر رمضان، وكان القارئ الشيخ محمد صديق الميمني (رحمه الله تعالى) يشرف على هذه المسابقة، واستمرت لأكثر من عشرين عاما، وعندما تعددت وتكاثرت المؤسسات التي تعنى بمثل هذه المسابقات، رأى النادي إيقافها، والاتجاه إلى نشاط ثقافي نوعي آخر، في سياق يضع في اعتباره خصوصية الشهر المبارك، وهو إقامة محاضرات دينية، يُدعى لها أساتذة متخصصون في فروع المعرفة الشرعية، إضافة إلى مسامرات أدبية أخرى تنظمها (أسرة الوادي المبارك) خلال الشهر الكريم، ومسامرة الأسرة، أقرب إلى المنتدى الثقافي الحر غير المحكوم بموضوع معين، بل دائرة حوار حميم بحسب ما يمليه اهتمام الحضور أو يختاره أحدهم». وأضاف الدبيسي «رمضان في موروثنا الديني والثقافي موسم تتجدد فيه الحياة، على صعيد اشتغالها على (الدنيوي) اليومي: الاجتهاد والمبادرات والعمل، وعلى صعيد الشعائر الدينية (الأخروي)، والصعيدان يتكاملان بما يفي بالمعنى، معنى التجدد والعمل والمبادرة، حيث خاض الرسول الأكرم (عليه صلوات الله وسلامه) غزوته الأولى في رمضان، بما فيها من تحول استراتيجي في مسيرة الدعوة وبناء الدولة في المدينة، وكان جبريل (عليه السلام) يدارسه القرآن في رمضان».

واستدرك الدبيسي أن هذه الصورة النموذج تغيرت، على الرغم من تراكم أمثلة ومعان كثيرة لرمزيتها في تاريخنا. وأوضح الدبيسي أن «رمضان اليوم - لا سيما لدينا – مختلف، ليس بالمقارنة مع بقية شهور السنة، بل بالمقارنة مع صورته الذهنية، التي رسمتها في ذاكرتنا السيرة النبوية، وأزمنة الطُهر الأولى، ولا ينظر إليها من وجهة سوسيولوجية محضة إذا ما قال إنه يعود بفضله إلى ما تصدره إلينا الوسائط الإعلامية، فقد تحول إلى موسم للاستهلاك المقيت، استهلاك الطعام والشراب، واستهلاك ما تغرى به من برامج تؤسس للركود والخمول. هو موسم ثقافي مختلف بحسب ما نؤثثه به من حمولات، وما نحدده له من أطر ،وما نقترفه فيه من سلوك.. عن أي ثقافة نتحدث؟!.. هذه هي الصورة الثقافية الأجلى التي تقتضي المراجعة والتأمل والأسى!».

وفيما إذا كان الثقافة في شهر رمضان تتشكل حسب خصوصية هذا الشهر، اعتبر الدبيسي أنه من الصعب تحديد «وصفة معيارية» لأشكال الثقافة المناسبة «لكن لا بد من استشعار قدسية الزمان (رمضان زمن الله) استأثر به.. (إنه لي وأنا أجزي به).. المعنى هنا أجل وأرفع من الاصطبار على ترك الطعام والشراب، فهو موسم لتنقية الجوارح، واستعادة اليقين بالرحمة والغفران، الاقتراب بقدر ما من قيمة الصبر وفضيلة علمائها»، ويعتقد الدبيسي أن الثقافة هنا أوسع كذلك من مطالعة أو مراجعة المؤلفات أو المعلومات أو استذكارها أو حفظ مزيد منها.. «أظننا بحاجة إلى ثقافة نفسية وسلوكية.. تنقي ذواتنا من الشوائب والإثم والخطايا.. ثقافة غير (ثقافة العادة)، والاستسلام غير المشروط لمقرراتها».

ومن اهتمامات الدبيسي الثقافية التي يعتز بإنجازها في رمضان، إعداده أطروحة راعى فيها ما يمس قداسة الزمان والمكان، ويرشح بآثار الأوابين إلى الله، الذين عاشوا في أكناف المدينة - واستقوا من نمير النبوة والجوار الأنقى، واعتصموا بها حبالا تصلهم بجلال السيرة وفضائل السلوك.. وفي هذا الصدد قال الدبيسي «أولئك قادوني إلى كتب (تاريخ المدينة المنورة) كنسق من المعرفة تتجلى فيه عظمتها وعظمتهم، وأخبار ووقائع وأشعار وحكايات، تستشعر فيها قيما ثقافية ومعرفية وإنسانية، تجعلك على مقربة من شعائر العلم لديهم، ومطلعا على منهج الالتزام عندهم، وثراء الذخيرة التي أورثونا إياها علَّنا نتدبر أو نخشى».