مدير الـ«يونيدو» لـ «الشرق الأوسط»: رمضان في فيينا عبادة خاصة

قال إن الأفارقة لا يحرصون على التمر في الشهر الكريم

د. كاندي يومكيلا
TT

«رمضان في فيينا عبادة خاصة، وجهد فردي يفتقد روح الجماعة، أما في بلادي فالجميع ينتظر الشهر الكريم ويحتفل به، سواء في ذلك المسلمون والمسيحيون».. بهذه الشهادة ابتدر الدكتور كاندي يومكيلا حديثه مع «الشرق الأوسط» عن ظروف صيامه للشهر الكريم بالعاصمة النمساوية فيينا، التي تستضيف مقر منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية (يونيدو) التي يديرها، وهذه فترته الثانية بعد أن جدد له قبل أكثر من عام.

يقول يومكيلا: «بلدي سيراليون بلد صغير جدا، الناس فيه مترابطون، ورمضان يزيدهم ترابطا باهتمام الصائمين وحرصهم على تأدية مناسكهم في جماعة، وعلى وجه الخصوص تأدية صلاتي المغرب والتراويح بالمساجد».

في سيراليون لا يفطر الناس، ولو بحسوات ماء، إلى أن يؤدوا صلاة المغرب، وبعد ذلك يتناولون طعاما خفيفا قوامه الأرز، الذي هو أساس الغذاء، ومما يفضلون لكسر الصيام أنواع من «البورج» أو الشوربة الكثيفة، بالإضافة لكرات محمرة من دقيق الأرز مخلوط مع مسحوق الموز، ثم بعد صلاة التراويح يجلسون في «بروش» على الأرض لتناول وجبتهم الرئيسية معا، بعد غسل الأيدي لتناول الطعام من أطباق واسعة مشتركة، مما يزيد من الإحساس بالإخاء والمساواة.

ونسأله عن أكثر ما يأكلونه كوجبة رئيسية في رمضان؟ فيأتي على ذكر مختلف أنواع اللحوم، بما في ذلك الأسماك المدخنة والناشفة التي تطبخ بصحبة مختلف أنواع الخضروات من «بامبي» و«كسافا» و«يام»، بالإضافة لنوع خاص من الموز كبير الحجم يسمونه «بلانتين». وكغيرهم من سكان غرب أفريقيا يستخدم السيراليونيون زيت النخيل (بالم أويل)، كما يفضلون الطعام الحار، ويعتمدون كثيرا في تسبيك طبخهم على مسحوق الفول السوداني، الذي يكسب الطعام قواما ونكهة وطعما لا مثيل لها. وكتحلية يستمتعون بمختلف أنواع الفاكهة المدارية من مانجو وباباي وقشطة وموز وأناناس، بالإضافة لحمضيات، في مقدمتها أنواع من البرتقال.

مدير الـ«يونيدو» الذي يشبهه كثيرون بالرئيس الأميركي باراك أوباما، بجامع أن كلاهما من أصل أفريقي، وكلاهما صغير السن، نال تعليما راقيا، وهو متحدث بارع، كما أن الناس حول كلاهما يتوقعون كثيرا من الإنجازات والعمل لإحداث تغيير حقيقي وجذري.

يقول: «طيلة السنوات الماضية بفيينا ظللنا نحلل الصيام بمكاتبنا، ونصلي المغرب بمسجد مبنى الأمم المتحدة، ثم نعود ما بعد السادسة مساء لتناول وجبة كاملة بمنازلنا، ويقتصر الأمر على الإفطار والسحور إلا في حالة الدعوات. وقد يكون في حلول رمضان صيفا هذا العام شيء من التغيير، إذ تغرب الشمس متأخرة بعد الثامنة مساء، مما يتطلب بدوره جهدا حتى يتلاءم برنامج اليوم وظروف العمل مع متطلبات الشهر الكريم، في بلاد لا تعرف رمضان».

ومع ذكريات طريفة يعود الدكتور يومكيلا بذاكرته لأيام لم يكن فيها الإسلام معروفا في الغرب، حتى في الولايات المتحدة الأميركية: «لقد سبق أن صمت أيام عملي الأول بالولايات المتحدة الأميركية وحيدا في أماكن لم تعرف مسلمين. وللمرة الأولى اكتشف زملائي أن بينهم مسلما وصائما.. كان ذلك في نظرهم إنجازا خاصة، وقد كانوا يتوقعون أن يؤثر الصيام على أدائي، أو يقلل من مقدرتي، وأذكر أننا كلفنا مرة بالتحضير لمناسبة ضخمة، احتاجت لمجهود عضلي وذهني، فكان عدد من الأصدقاء في جدية تامة يطلون عليَّ كل حين وآخر، حتى يتأكدوا أنني ما زلت بخير ولم أنهَر. لم يتصوروا أبدا أن الصائم يمكن أن يستمر ساعات دون أن يتناول رشفة ماء، ومما أذكر أن المشرف على ذلك البرنامج قد خصص في كلمته الافتتاحية مقتطفات ليتحدث عما اعتبره إعجازا، لكوني لم أتقاعس على الرغم من صيامي».

كما قلت إننا في فيينا نفتقد روح الجماعة كما نفتقد ثقافة أهلنا القائمة على المشاركة، حتى في القليل مما يتوفر. ومن كرامات الشهر بسراليون الحرص الشديد على القيام بكثير من أعمال الخير لمساعدة الآخرين، حتى يحسوا بنعم الشهر الفضيل، وفي هذا المجال تلعب المساجد دورا مقدرا، كجسر لتوزيع الهبات والمساعدات التي يتبرع بها أثرياء المجتمع، بما في ذلك النساء اللاتي يحرصن على تقديم كميات ضخمة من الطعام لموائد الإفطار الجماعية، كما يزخر الشهر بالكثير من الهبات المادية والعينية، في مقدمتها التبرع بجوالات من الأرز والسكر والزيت، ولذلك قيمة أكثر من التبرع بأموال سائلة. بجانب ذلك يهتم الناس عندنا بالتبرع بجوالات من الفول (أبو قشرة)، الذي كان يستخدم في عهود ماضية كعملة للتبادل وشراء البضائع، ولا يزال يحظى بأهمية كبرى في هذا الإقليم، كما يدخل ضمن ما تتبادله الأسر كمهور عند الزواج؛ تعمد أم العروس على توزيعه طالبة الدعاء لابنتها بحياة زوجة سعيدة.

في المقابل لا يجد التمر تلك الأهمية التي يحظى بها في بلاد مسلمة صحراوية تحلل به صيامها، كسنة من سنن الرسول عليه الصلاة والسلام. وهذه العادة لم أكتسبها وأعرف قيمتها إلا بعد اختلاطي بأصدقاء وزملاء من المسلمين العرب. وقد لاحظت أنها لا تنتشر في غرب أفريقيا، إلا عند قبائل الفولاني بنيجريا. ومعلوم أن الإسلام وصل إلى سيراليون عن طريق فولاني غينيا، وعلى الرغم من تشابه العادات بين القبائل، فإن كل قبيلة لها خصوصياتها.

يمضي مدير الـ«يونيدو» حاكيا، والحديث معه ذو شجون: «من أكثر العادات التي أذكرها أننا لم نكن نفطر إلا بعد أن يتعذر علينا رؤية الشعر في جلودنا، والعكس تماما عند الإمساك عن الطعام الذي يتم لحظة يتمكن المرء من رؤية ذلك الشعر. هذه طريقة عملية وبسيطة تمكن الصائم من معرفة مواقيته، حتى عندما تكون السماء ملبدة بالسحب ولا يمكن الاحتكام إليها، وبالطبع طرأ كثير من التغيير حديثا مع وفرة الساعات ووسائل التقنية».

ثم يمضي مختتما: «كما هو الحال في بقية البلاد الإسلامية، فإن العشرة أيام الأخيرة من الشهر هي أفضل أيامه، لا سيما الليالي التي يتوقعون فيها ليلة القدر، حيث يحرص الناس على قضاء الليل بالمساجد، وهم يتهجدون ويرتلون القرآن، ويجودون قراءته لساعات وساعات لا تنقطع إلا لسماع خطب ودروس من أئمة المساجد، وبعض كبار القوم وأكثرهم تفقها بشؤون الدين وأمور الحياة. وكم حرصت على الانتقال من مسجد لآخر مستمتعا باختلاف الطرق وأنواع الترتيل والإنشاد، ومقدار الموسيقى العذبة الشجية التي يقرأون بها، مما يجعل الدموع تنهمر مدرارا في خشوع وهيبة، وتدفع المرء للتمعن والتفكير في عظمة هذا الدين وسماحته. وكنت أحرص عادة أن أختم جولتي التي قد تطال 5 مساجد مع أفراد قبيلتي (سوسو)، التي وإن كانت تعتبر من أصغر قبائل سيراليون، إلا أنها الثالثة حجما في غينيا، حيث نبتهل وندعو ونختم المصحف».