شهر القرآن (17) «وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ»

د. عائض القرني

TT

الهماز اللماز إنسان ساقط في مجال الشرف، منحط من رتبة القيم، منسي في ديوان المثل السامية، لأنه هماز للأعراض، لماز لعباد الله، وهو يهمز بقوله، ويلمز بفعله، فعينه ويده تهمزان، ولسانه يلمز، ويل لهذا بالوعيد من عذاب شديد، من منال أكيد، ويل لهذا المتسلق على أكتاف البريئين، القارض لأعراض الصالحين.

إن هذا الشرير همه فقط اقتناص المعايب، وجمع المثالب، فهو يفرح بالزلة، وتسره السقطة، وتعجبه الغلطة، فهو يذكر السيئات في الناس، لكنه ينسى الحسنات، يستحضر الأخطاء غير أنه تغيب عنه الإصابات؛ لأن نفسه الأمارة مريضة:

«ومن يك ذا فم مريض يجد مرا به الماء الزلالا»..

ولأن عين رشده بها رمد:

«قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد وينكر الفم طعم الماء من سقم»..

لا يفرح بالفضائل التي تحملها القلوب الطاهرة؛ لأنه جحود حسود، لا يرتاح للصفات الجميلة والمعاني الجليلة في الناس؛ لأن فعله سيئ، وقلبه أسود، ولسانه مر:

«إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه وصدَّق ما يعتاده من توهُّمِ»..

ويل لهذا الهمزة اللمزة من عذاب الله وغضبه، كيف يجور في حكمه؟.. فهو بالمرصاد لعباد الله، ينشر مساوئهم، يتفكه بمعايبهم، يفرح بزلاتهم، يسعد بعثراتهم، وهو يحب أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا؛ لأنه مخذول مهين، ويضيق ذرعا بالأوفياء النبلاء والصالحين الأخيار؛ لأنه مارد أثيم. إن سلامة القلب وعفة اللسان موهبة ربانية يغدقها الله على من يشاء من عباده، فترى صاحبها ستيرا عفيفا، طاهر السريرة، سليم الصدر، يثني على الجانب المشرق في حياة الناس، تعجبه الخلال الحميدة، تفرحه الخصال الجميلة، يحمل إخوانه على السلامة، يلتمس للعباد العذر، يشيد بالمكارم، ويهمل ما سوى ذلك، ليس عنده وقت لتشريح عباد الله على خشبة نقده، وما عنده فراغ لإحراق أوراق الصالحين بناره.

وإن من يتدبر هذه الآية ينتابه خوف مزعج من عواقب إرسال اللسان في الأعراض، واغتياب عباد الله، وتتبع عوراتهم، فإنها علامة الإفلاس، ونهاية الخذلان، وويل لمن هذا فعله، قاتله الله كيف نسي نفسه وتقويم اعوجاجه، وإصلاح ما فسد من أخلاقه، وبناء ذاته، وذهب - تبا له - يتفحص ما ستر الله من عيوب العباد، ويكشف المغطى من سجايا الناس؟.. فهو عدو للنجاح، حرب للفضيلة، هدم لصروح المكارم، وويل لكل همزة لمزة.