شهر القرآن (27) «مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ»

د. عائض القرني

TT

الحياة الطيبة تنال بأمرين: الإيمان والعمل الصالح، فمن آمن وعمل صالحا نال مرتين حياة سعيدة رغيدة، وجزاء كريما موفورا في الآخرة.

ولكن كلمة «حَيَاةً طَيِّبَةً» عجيبة، فإن فيها من الجمال والعموم ما تهش له النفس، فكل أمن وسكينة وسرور وحبور وصحة وأمن وأنس وطمأنينة مع صلاح الأبناء واستقامة الحال وحسن المنقلب والعافية من كل مكروه؛ فإنها كلها من الحياة الطيبة، فمن أراد حياة طيبة بلا إيمان ولا عمل صالح فقد حاول المستحيل، وطلب الممنوع.

وكيف ينال الحياة الطيبة من أساء المعاملة مع ربه الذي منه وحده تنال الحياة الطيبة، فإن كل خير وصلاح أساسه التقوى، وإن كل شر وبلاء سببه المعاصي والآثام، وهذا معلوم من نص الشرع، قال سبحانه: «ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ»، وقال: «فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ»، وقال: «قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ»، فمن حقق الأصلين، وهما الإيمان والعمل الصالح، سعد في الدارين وأفلح في الدنيا والآخرة، وما أروع القسم في قوله جل في علاه: «فَلَنُحْيِيَنَّهُ»! فهذا وعد أكيد وخبر جازم وبشرى محققة.

وانظر إلى قوله: «فَلَنُحْيِيَنَّهُ»، ما أحسن اختيارها! فالذي لا يحييه الله كأنه ميت ولو عاش، وهالك ولو عُمّر، وفي كلمة «نحيينه» من الجاذبية والأسرار والتشويق لهذه الحياة ما يأخذ اللب ويأسر القلب، وانظر كيف نكر كلمة «حياة» لتكون عامة كاملة، وهذا تنكير تعظيم، وتحت كلمة حياة من الأسرار والمعاني ما يفوق الوصف، فإن هذه الحياة تشمل حياة القلب بالإيمان والهدى، فلا يموت أبدا يوم تموت القلوب، وحياة العقل بحسن الإدراك وصواب البصيرة وسداد الرأي، وحياة الجسم بالعافية وحسن المعيشة، والسلامة من الآفات، والنجاة من الكدر، والأمن من المتالف.

أقسم، وهو أصدق القائلين، على أنه سوف يجزيهم بأحسن من عملهم، ولم يقل بحسن أو بخير أو بجميل، بل قال: «بأحسن»؛ لأن في العمل حسنا وأحسن، فالله يجزيهم بأحسن عمل عملوه، وتقاس بقية الأعمال على أحسنها، فيثاب على أحسن صلاة صلاها في حياته، وتساوى بها بقية الصلوات، وهكذا سائر الأعمال، وهذا من كرمه وجوده وتفضله جل في علاه.

ثم انظر إلى الجمع في الآية بين الذكر والأنثى في من يعمل، والإيمان والعمل الصالح في العمل، والحياة الطيبة والأجر الأحسن في الثواب، فهي ثنائية من أصناف ثلاثة؛ فذكر الذكر والأنثى ليعلم الجنس، والإيمان والعمل الصالح يشمل أصول العمل، والحياة الطيبة والأجر العظيم يستغرق كرامة الله لعباده.