الإمام الشاطبي.. مؤسس علم المقاصد

محمد حلمي عبد الوهاب

TT

قلما حظي الفكر الإسلامي، فيما بعد القرن السادس الهجري، بمفكر مجدد موسوعي على النحو الذي كان عليه أبو حامد الغزالي المتوفى سنة خمس وخمسمائة من الهجرة مخلفا وراءه أعمالا موسوعية كبرى، يأتي في مقدمتها كتابه «إحياء علوم الدين». ومع ذلك؛ فإن الناظر في سيرة الإمام أبو إسحاق الشاطبي المتوفى في غرناطة عام تسعين وسبعمائة من الهجرة، يلاحظ على الفور ما تميز به هذا الإمام من تفكير نيّر وتجديد ثري في النظرة إلى الدين وغايته والشريعة ومقاصدها.

ومن اللافت للنظر في هذا السياق، أن كلا من الإمام محمد عبده (توفي 1905م) والشيخ محمد رشيد رضا (توفي 1935م) قد عمدا إلى إحياء فكر المقاصد كما هو عند الإمام الشاطبي بغية وضع أساس متين لفكر ديني جديد ومتجدد! ولا غرابة في ذلك على الإطلاق إذا ما وضعنا في عين الاعتبار بديهية أن تغيُّر الأزمان يقتضي ضرورة تغيُّر الأحكام، وأن المقاصد الشرعية - دون غيرها - هي التي تحكم سياق هذا التغيُّر. وعلى ذلك؛ فالمقاصد مُصانة لا يطالها التغيير؛ لأنها الكليات الثابتة في الدين، على حين أن الأزمنة تتغير والأحكام تتغير وفقا لذلك.

الشاطبي وعلم المقاصد:

من المعلوم أن الإسهام الأكبر للإمام الشاطبي يتمثل في علم المقاصد، مقاصد الشريعة، لدرجة أن البعض قد لقبه بشيخ هذا العلم. وتتأسس أهمية هذا العلم، بنظر الكثيرين، على كون الدين هو دستور حياة المسلمين والذي يعبر في مضمونه عن نظرة إلى الوجود ورؤية للكون ولما وراءه من أسباب ومسببات مبنية على قواعد ومبادئ تعد من صلب التجربة الدينية.

وإذا كان الإسلام يتضمن بطبيعة الحال، إلى جانب ما سبق، واجبات وحقوقا، عبادات ومعاملات، قواعد وأصولا في التعامل، فإن هذه القواعد تعد بمثابة التعبير العملي عن المبادئ الكلية التي بيّنها الكتاب وفسرتها السنة. وبما أن التعبير العملي لا ينفصل بداهة عن المبادئ الكلية؛ فإن مقاصد الدين - أو بالأحرى مقاصد الشريعة - تبقى هي الغاية الأسمى التي يسعى الدين من خلالها إلى هداية الناس في تنظيم شؤون دنياهم توخيًّا لمرضاته، سبحانه وتعالى، وتحقيقا للسعادة في العاجل والآجل.

ليس غريبا إذن، والحال هذه، أن يدعو الأستاذ الإمام محمد عبده علماء الدين من معاصريه إلى الانكباب على دراسة الإمام الشاطبي. وكذلك فعل الشيخ رشيد رضا عندما قدّم لكتاب «الاعتصام» بتعريف بيّن فيه أهمية الشاطبي في تاريخ الفكر التجديدي في الإسلام، فذهب يقول: «العلماء المستقلون في هذه الأمة ثلة من الأولين وقليل من الآخرين، والإمام الشاطبي من هؤلاء القليل، وما رأينا من آثاره إلا القليل: رأينا كتاب (الموافقات) من قبل ورأينا كتاب (الاعتصام) اليوم، فأنشدنا قول الشاعر:

* قليلٌ منك يكفيني ولكن - قليلُك لا يُقالُ له قليلُ!.

لكن المصنف بهذا الكتاب، وبصِنْوه كتاب (الموافقات)، الذي لم يُسبق إلى مثله أيضا، من أعظم المجددين في الإسلام».

والأمر ذاته ينطبق، بصورة أو بأخرى، على كل من: مصطفى عبد الرازق، والطاهر بن عاشور، وعلال الفاسي.. وغيرهم، مما يجعل الشاطبي بمثابة أحد مصادر الإلهام الكبرى لحركات الإصلاح والتجديد في العصر الحديث.

على أن بيان سر هذا الارتباط يبدو يسيرا بالنظر إلى طبيعة العصر الذي عاش فيه الإمام الشاطبي من جهة، وما كان عليه حال المسلمين في مطلع القرن العشرين من جهة أخرى. فقد آلم الشاطبي ما آلت إليه أوضاع المسلمين في عصره من انحطاط وتردٍّ، حيث ضعُفتْ دولتهم، خاصة في الأندلس التي قضى فيها الشاطبي معظم أيام حياته، وتكالبت عليهم الأمم الأخرى. والحال ذاته يكاد يكون مكررا بالنسبة للحال الذي بات عليه أمر المسلمين في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين.

النقطة الرئيسية التي ينطلق منها الشاطبي لمعالجة فكرة المقاصد تبدأ من إدراكه أن القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة هما أساس الدين، وأن الأخذ بما جاءا به من أحكام واجب لا جدال فيه، وأن ذلك هو السبيل الأسلم للتخلص من البدع التي حجبت عن الناس جوهر الدين. ومن هنا، بدأ الشاطبي في شن حملة على بعض العادات المنتشرة في عصره معتبرا إياها أمورا لا تمت بأية صلة إلى الإسلام.

ولعل أقوى مثال على تعظيم الشاطبي لهذين الأصلين، أنه في تأصيله لنظرية المقاصد كان حريصا على ردّ كل صغيرة وكبيرة إلى النصوص الشرعية واستقاء قواعده من أحوال النبي، صلى الله عليه وسلم، وصحابته. ففي المسألة السابعة من مسائل «الأوامر والنواهي» - على سبيل المثال - يؤكد الشاطبي على أن الأخذ بالمصالح ليس مرسلا بلا ضوابط، وإنما لا بد من مراعاة النصوص والمقاصد جميعا، بحيث لا يكون اعتبار «المقاصد» في مقابل إهدار «النصوص».

على أن دعوته لمحاربة العادات والبدع لم تكن دعوة للانغلاق أو التحجّر، كما قد يفهم البعض، وإنما هي دعوة لأصل الدين الذي يحضُّ على التطور والتجديد. ولذلك، وضّح الشاطبي أن من البدع ما هو حسنٌ أو مُستحسنٌ، وأن مصالح العباد تفرض على الأئمة المجددين أن يأخذوا بالمبادئ الفقهية لرفع الحرج، وصون تلك المصالح عن طريق النقل والعقل الذي عدّه أصلا من أصول الشرع، مع التأكيد على قصوره ومحدوديته! الكليات الخمس:

وفي السياق ذاته، يؤكد الشاطبي على ما سماه «الكليات» التي بنيت عليها الشريعة الإسلامية، باعتبارها الأساس في كل تشريع، فلا علم إلا بها وبناءً عليها. وهذه الكليات الخمس هي: حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ العرض، وحفظ المال. وعلى ذلك؛ فإن علم مقاصد الشريعة يكاد يتمحور حول هذه الكليات الخمس فيعمل على مراعاتها في كل تشريع؛ لأن في مراعاتها تكمن المصلحة العليا وفي إهمالها أو التغاضي عنها مجلبة لفساد الأمة وخراب العمران، بحسب التعبير الخلدوني.

وإلى جانب هذه الكليات «الكبرى» إذا صح التعبير، ثمة «مصالح مكملة» غير المصالح العليا المبنية على «الكليات الخمس». ومن أجل توضيح عموم هذه الكليات كتب الإمام الشاطبي كتابه «التعريف بأسرار التكليف» والذي سرعان ما عدّل عنوانه إلى «الموافقات» لأسباب بينّها في مقدمة الكتاب.

وعلى ذلك؛ فكتاب «الموافقات» يعد من أهم كتب الشريعة ومن آكد عُمَد أصول الفقه على مدى تاريخه الطويل، إذ لا ندّ له في بابه لأصول الفقه وحِكَم الشريعة وأسرارها. أضف إلى ذلك أيضا، أنه لم يعمد إلى تأليف كتاب تقليدي يستوفي فيه مباحث الأصول على صورتها المعهودة كما كان عليه الحال من قبل. وآية ذلك؛ أنه قد أعرض عن ذكر مباحث هي من صميم ما تتداوله كتب الأصول، كما صاغ مباحث أخرى لا عهد للأصوليين بها. وإنما الذي يظهر للمتأمل أن الشاطبي قد قصد من وراء كتابه هذا إيراد ما أغفله الأصوليون مما كان حقا عليهم بيانه.

والواقع أن الإمام الشاطبي لم تقف به الهمة في التجديد لهذا الفن عند حدّ تأصيل القواعد وتأسيس الكليات المتضمنة لمقاصد الشارع في وضع الشريعة فحسب، وإنما تعمّق في فهم تفاصيلها واستكناه دقائقها، فتوصل باستقرائها إلى استخراج درر عظيمة لها أوثق صلة بروح الشريعة، وأعرق نسب بعلم الأصول بحسب ما يؤكد العلامة دراز.

خصائص منهجه العلمي:

من ألزم خصائص المنهج الأصولي عند الشاطبي، تبرز خاصية بناء تأصيلاته على الاستقراء حيث بيّن في مقدمة «الموافقات» أنه اعتمد على الاستقراءات الكلية، بل إنه بلغ بالاستقراء حدّ أن جعله بمثابة خاصة كتابه! وهو في هذا الصدد يعرفه بالقول إنه عبارة عن «تصفُّح جزئيات ذلك المعنى ليثبت من جهتها حكم عام: إما قطعي وإما ظنيٌّ». والاستقراء بذلك يكون مبنيا على لمح المعنى المشترك من مقتضيات أدلة كثيرة مما قد يكون ظاهرا أو خفيا، صريحا أو ضمنيا، مما يعتمد في استخراجه على القرائن والدُّربة ودوام النظر.

وإلى جانب هذه الخاصية، تبرز خصائص أخرى متعددة تميز منهج الشاطبي في إرساء علم المقاصد، من أبرزها: منهجه الدقيق في الاستدلال، والموضوعية والتجرد، والاعتدال والتوسط والنَّصَفَة. فمع إقراره أن التغالي في العمل بالظواهر بعيد عن مقصود الشارع؛ فإنه يرى في إهمالها إسرافا كذلك، ولذا كان يعتبر وصف مذهب الظاهرية بالبدعة من التغالي.

وبالإضافة إلى ما سبق، هناك أيضا دقته وعمقه البالغان، والاقتصار من البحث على ما فيه المنفعة، ونقد مسالك الأصوليين، وإبداع مباحث ومسائل جديدة في علم الأصول: كنظرية المقاصد الشرعية والمصالح والمفاسد، وأصول الاتباع وأصول الابتداع، وأن دلالة الكلام يكون على اعتبارين: دلالته على المعنى الأصلي، ودلالته على المعنى التبعي.. إلخ.

غاية العلم.. ومنزعه السلفي:

حدد الشاطبي غاية العلم في مرضاة الله عز وجل، معتبرا أن ذلك هو الأصل في طلب العلم. وحجته في ذلك؛ أن العلم يُعزّزُ الإيمان بالله وبما أنزل على أنبيائه ورسله - عليهم الصلاة والسلام - فمقاصد الشريعة - بحسب الشاطبي - «ضرورية وحاجية وتحسينية». أما أهداف العلم، فلا تخرج بحسبه عن «جلب المصالح ودفع المفاسد»، مع التأكيد على أن مصالح الدنيا تُعرف بالنظر إلى الآخرة؛ لأن المصالح الدنيوية «غير محضة، بل تُخالطها المفاسد، والعكس بالعكس وهذا يبعث على اختلاف الآراء والاجتهادات، مما يدعو إلى ضرورة محاورة الخصم وعدم التسرُّع في الحكم عليه، لأن الاجتهاد لا يقتضي الاتفاق (ضرورة)».

وفي كل الأحوال؛ يؤكد الشاطبي على ضرورة أن يرتبط العلم بالعمل، فالعلم النافع عنده هو وحده الذي يفيد العمل، متأثرا في ذلك بما قاله شيخ مذهبه الإمام مالك بن أنس (توفي 179هـ): «لا أحب الكلام إلا فيما تحته عمل». وبهذا يتأكد لنا أن سلفية الشاطبي المنفتحة - والتي لا جدال فيها - هي التي دفعته إلى تأسيس علم المقاصد، وجعلت منه إماما مجددا يجمع ما بين الالتزام والانفتاح، الأصالة والمعاصرة.

فقوة المنزع السلفي تعد من أظهر الخصائص التي امتاز بها الإمام الشاطبي، وأشدّها تمكنا من نفسه، حيث أكثر من التعويل على قول السلف ومسلكهم في الفهم والنظر وبناء قواعده وفق ما قرروه من قبل. بل إنه أطلق لفظة «السنة» على جميع «ما عمل عليه الصحابة، وُجِدَ ذلك في الكتاب والسنة أو لم يوجد، لكونه اتباعا لسنة ثبُتت عندهم لم تُنقل إلينا، أو اجتهادا مجتمعا عليه منهم أو من خلفائهم، فإن إجماعهم إجماع، وعمل خلفائهم راجعٌ أيضا إلى حقيقة الإجماع، من جهة حمل الناس عليه حسبما اقتضاه النظر المصلحي عندهم».

ليس هذا فحسب؛ بل إنه وضع مسألة برأسها في تقرير أنه «يجب على كل ناظر في الدليل الشرعي مراعاة ما فهم منه الأولون وما كانوا عليه في العمل به». وجملة ما بنى عليه الشاطبي منهجه في ضرورة اعتبار فهم السلف وعملهم بالأدلة أربعة أمور: ثبوت فضلهم، واقتداؤهم بالنبي، صلى الله عليه وسلم، وأن فهمهم عاصمٌ من الزيغ عن مقاصد الشرع ومرامي الكتاب والسنة، وأخيرا أنهم قد أخذوا الأدلة مأخذ الافتقار واقتباس الأحكام منها دون هوى أو غرض.

* كاتب مصري