جامع عقبة بن نافع في رمضان.. إشعاع روحاني يتجاوز الحدود

الشيخ الطيب الغزي لـ«الشرق الأوسط»: كثيرون رأوا المسجد في منامهم فجاءوا ليعلنوا إسلامهم

جانب من محراب جامع عقبة بن نافع في القيروان («الشرق الأوسط»)
TT

يواصل جامع عقبة بن نافع رسالته الروحية في تونس وما حولها منذ دخول أهالي المنطقة في الإسلام بدءا من سنة 50 هجرية، ومنذ ذلك الوقت وهو يسهم في نشر تعاليم الإسلام وتثقيف الناس بها. واليوم تعج أروقة المسجد بالدروس في كامل أيام الأسبوع عدا الجمعة. وقد خصص القائمون على المسجد، وفي مقدمتهم الشيخ الطيب الغزي، إمام الجمعة، دروسا مفصلة في العقيدة وعلوم القرآن وعلوم الحديث والسيرة إلى جانب حفظ القرآن عن طريق الإملاء. وفي رمضان تصلى في الجامع صلاة التراويح 20 ركعة ويختم القرآن ليلة 27 من رمضان، بينما يصلي الشباب صلاة التهجد في العشر الأواخر من الشهر المبارك. وفي شهر رمضان يمتلئ المسجد حتى لا يقدر على استيعاب مئات الآلاف من المصلين. وفي ليلة 27 رمضان، كما أخبرنا الشيخ الطيب الغزي، يتم «تكريم الفائزين في مسابقات حفظ القرآن الكريم في حفل بهيج يحضره الأولياء والمصلون». ولا توجد ترتيبات للاعتكاف وإن كان هناك درس يومي عند السحر، كما لا توجد إفطارات جماعية كالتي تشتهر بها دول إسلامية كثيرة ويطلق عليها (موائد الرحمن) في رمضان، وإنما تتم الاستضافات في المنازل، كما لا توجد قراءة جماعية للقرآن، وإنما يقرأ جماعيا في الإملاء فقط. وفي صلاة التراويح يكون أكثر من إمام وأحيانا يكون هناك 4 أئمة يصلون التراويح في كل ليلة».

وقال الشيخ الطيب الغزي، إمام الجمعة والمسؤول في المسجد لـ«الشرق الأوسط» إن ما يعجبه في رمضان هو «تكاثر الناس في المساجد لأداء الصلاة جماعة في جميع الأوقات، ومن كان لا يصلي يقبل على الصلاة، ومن كانوا يصلون في البيوت يذهبون للمساجد في رمضان، فرمضان يجمع ولا يفرق، والناس يقبلون على تلاوة القرآن ويتبادلون الهدايا ويستضيفون بعضهم بعضا ويزور بعضهم بعضا». أما عادات البعض السيئة التي لا يحبها فهي «السهرات الماجنة التي تُحسب على رمضان باسم التسلية، وفيها مشاهد تثير الدهشة». وتابع: «ممارسات تحسب على شهر الله فيقال: بمناسبة شهر رمضان المعظم تنظم حفلة راقصة في المكان الفلاني أو مسلسلات تسخر من الصوم ومن عباد الله المؤمنين وتستفز المشاعر»، ومما لا يعجبه أيضا «السهرات في المقاهي والمحلات غير اللائقة.. أناس في المساجد وآخرون يقضون الليل في المقهى والقمار والكلام الفاحش». وأردف: «مشهد مزرٍ ومؤلم، سواء ما يبث عن طريق الفضائيات أو في أحياء الناس ومنتدياتهم».

وعلى الرغم من أننا في رمضان فإن المسجد الذي لم يُبنَ مثله في تونس منذ نحو 14 قرنا فرض نفسه على نسق الحوار، فهو كما قال الشيخ الغزي «ليس مسجدا فقط، بل هو مؤسسة علمية منذ بداية نشأتها؛ ذلك أن نظام إقامة المساجد منذ فجر تاريخ الإسلام كان يقوم على هذا المقصد، العبادة وتثقيف الناس بأمور دينهم، وقد اضطلع المسجد، هذا المعلم الكبير، بمهمة عظيمة عبر تاريخه الطويل، ومنه انطلقت جيوش الفاتحين عبر المغرب، وفي طريقهم أقاموا مساجد أخرى هي امتداد لهذا المسجد، وقد أصلت المهمة في نشر النور وسط الظلمات والعبادة وسط الهرج وقول الحق والعمل به وسط بحر من المظالم ونشر الثقافة الإسلامية ورسخت المذهب السني المالكي على مر العصور؛ لذا تلاحظون على امتداد شمال أفريقيا (المغرب الإسلامي) أن نظام العمارة متشابه، في القيروان والقرويين وفاس بالمغرب وفي الجزائر وفي موريتانيا هناك تشابه واضح يؤكد هذا التواصل وهذا الامتداد من جامع عقبة بن نافع».

كان جامع عقبة بن نافع، ولا يزال، قلعة علمية «استقطبت الكثير من العلماء الذين لم يقف علمهم عند حدود الشرع، بل شمل الفلك والطب والرياضيات، فابن الجزار، من مواليد القيروان، كان مدرسا في هذا الجامع، ونظام التعليم في السابق كان موسوعيا، فعالم الشريعة هو طبيب وفيلسوف وفلكي وقارئ للقرآن ومجتهد».

جامع عقبة كان منطلقا لنشر الإسلام في أفريقية (تونس) التي أطلق اسمها على كامل القارة الأفريقية، ومن علماء القيروان: عبد الله بن زيد القيرواني «عالم وفقيه، ولذلك كان حكيما صالحا وورعا، وآثاره تدل عليه كالرسالة والنوادر، وقد تعرض، كالكثير من العلماء العاملين، لمحنة ولبطش السلطة العبيدية، وكانوا غلاظا اضطهدوا فقهاء المالكية ومنعوا العلماء من التدريس في جامع عقبة بن نافع، بل من الصلاة، منهم عبد الله بن زيد القيرواني، وثلة من العلماء، فكانوا يدرسون في بيوتهم سرا وفي الليل، وكان يلقي عليهم الرسالة وغيرها على خوف من العبيديين وعيونهم. وقد جاهد بالعلم ولم يحمل سيفا في مواجهة العبيديين، ولم يسبهم، لكنه حرص على الحفاظ على المذهب السني المالكي. وقد صبر وصابر ورابط حتى كان النصر في النهاية للمذهب المالكي السني حتى يومنا هذا».

نجد أيضا الإمام سحنون نموذجا كبيرا، يعود إليه الفضل في تركيز المذهب السني في هذه الديار، وهو قاضٍ مالكي وكان يدرس في جامع عقبة بن نافع، وقاوم الفئات الضالة وأصحاب البدع والفتن مقاومة ضارية، وفي عهده كان الجامع يعج بالعلماء وليس بالطلبة فقط. وعندما تولى القضاء اشترط على الأمير الأغلبي ألا يأخذ مرتبا وألا يأخذ عطية وألا يركب للحكومة بغلا، حتى لا يستبد عليه الحاكم بتلك المنح والعطايا، وقال قولته المشهورة: «أتولى القضاء من دون عطايا». وعندما دخل عبد الله بن غانم، وهو سابق للإمام سحنون بفترة قليلة، ووجد 300 قلنسوة (للشيوخ) و200 عمامة (للمفتين) قال: ذهب الناس، أي لم يعجبه العدد واستقله، رآه عددا قليلا. وأسد بن الفرات «كان من الأعلام الذين تلقوا العلم عن الإمام مالك وكانوا يدرسون بجامع عقبة بن نافع، وكان حنفيا، يجمع بين المذهبين، ولدينا محمد ابن الإمام سحنون، ولدينا أبو الحسن القابسي، ولدينا الشيخ السيوري، كان فقيها مالكيا مجتهدا، وهو من شيوخ الجامع المشهورين».

ومن العلماء المعاصرين: الشيخ عبد الرحمن خليف، و«قد عاصرته وعشت معه منذ 1956 وحتى وفاته في سنة 2006. كنت مراهقا وكان مديرا للمعهد وكان شيخي الذي درست عليه علم الفرائض، وكنت أستاذا عندما كان موجها للتعليم الثانوي، وله إشعاع داخل تونس وخارجها، وشارك في الكثير من المؤتمرات في السعودية وتركيا والجزائر والمغرب وإندونيسيا وجزر المالديف وغيرها، وله علاقات مع رابطة العالم الإسلامي وكانت هي التي تستدعيه. كان نشيطا وحريصا على نشر العلم الشرعي والعقيدة السنية، وعلى ترسيخ المذهب المالكي وترسيخ القرآن في رواية قالون عن نافع. رجل له إشعاعه، استقطب الكثير من أوساط مختلفة في خطبه ودروسه يمس بعض القضايا» سجن في 17 يناير (كانون الثاني) 1961 عندما عارض بورقيبة الذي دعا إلى الإفطار في رمضان «لكن الشيخ رفض ذلك، مما أثار حفيظة بورقيبة، فطلب نقله إلى الجنوب فتظاهر الناس مرددين: (الله أكبر.. الله أكبر.. ما يمشيش خليف)، وقد طال بطش بورقيبة المفتي الشيخ جعيط وليس ابن عاشور». وعاد الشيخ خليف إلى المسجد والتف حوله أناس كثيرون؛ حيث كان له أسلوب تجديدي في إلقاء الخطبة وتحفيظ القرآن.

التأثير الروحي للمسجد «واضح من تعلق أفئدة المسلمين به في مشارق الأرض ومغاربها، حتى الأجانب الذين يدخلون الإسلام يحسون بروعة وبخشوع. هناك سر رباني.. (لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه). ولا شك أن مؤسسه رجل تابعي من الصالحين كان يروم من إقامة المسجد إلى نشر الإسلام وترسيخ تعاليمه في هذه الربوع». ومن القصص التي يرويها الشيخ الغزي أنه «منذ 3 أيام جاءت امرأة نرويجية من أصل بولوني وأعلنت إسلامها هنا، رأت في منامها واجهة جامع عقبة بن نافع وما يقابلها من مبانٍ بلون أزرق، وعندما جاءت إلى هنا وهي لا تعرف ووقفت على مشارف المسجد قالت هذه الصورة رأيتها في منامي في النرويج». امرأة أميركية أيضا «أعلنت إسلامها عام 1999 على يد الشيخ عبد الرحمن خليف، وقد أهدت صورة جامع عقبة بن نافع إلى المسجد قبل أن تراه عيانا برسم اليد وكانت رسامة؛ حيث رأت الجامع في منامها، وعندما عرضت الرسم على بعض المسلمين في الولايات المتحدة الأميركية قال لها البعض إنها صورة جامع عقبة بن نافع في القيروان بالبلاد التونسية، فقطعت تذكرة سفر وجاءت إلى هنا واستقبلها الشيخ عبد الرحمن خليف، يرحمه الله، وعندما رأت الجامع أعلنت إسلامها».

وقصص إسلام الكثير من جنسيات مختلفة هنا كثيرة «وبعضهم يعجز عن تفسير سبب إسلامه، لكن جميعهم يبكي. ومنهم بريطاني يمتهن زخرفة السيراميك، بكى حتى أثَّر في المصلين فقاموا يحتضنونه ويصافحونه ويضمونه إلى صدورهم كما لو كان فردا من الأسرة ظل غائبا عن العائلة دهرا طويلا، وهو كذلك. ومنذ عامين جاء شاب فرنسي يعمل مهندسا ميكانيكيا في قطاع البواخر، جاء إلى هنا مهاجرا، وأعرب عن ارتياحه بوجوده في المسجد وقال لي إنه مقيم ليلا ونهارا بالمسجد ولا يريد مغادرته؛ حيث إن له سحرا كبيرا. وعندما سألته لماذا أسلمت قال لي بالعربية (أسلمت بالفطرة. ولا أنوي الرجوع إلى عملي وإلى بلدي؛ لأن الذين يعملون معي يستهزئون بي ويستفزونني) فقلت له أنتم في فرنسا تتمتعون بالحرية فأكد لي أن ذلك ليس صحيحا: (ذلك كذب، لا سيما فيما يتعلق بالفرنسيين الذين يعلنون إسلامهم فهم مضطهدون). وعندما سألته: إلى أين تنوي الهجرة؟ أجاب: موريتانيا. وهناك امرأة أعلنت إسلامها وجاءت مع زوجها وهي ألمانية، فسألتها لماذا أسلمت فقالت: لا تسألني هذا السؤال أنا مسلمة قررت إعلان إسلامي لأن قلبي انشرح إلى الإسلام من دون تفسير وغضبت من السؤال. هناك سر كالذي يقف أمام الكعبة أو المسجد النبوي أو المسجد الأقصى».