الأبعاد الاقتصادية لفريضة الصيام.. متى ندركها؟

صياغة أنماط استهلاكية رشيدة تسهم في النمو الاقتصادي للفرد والمجتمع.. فهناك كثير من العادات الاستهلاكية السيئة في شهر رمضان من تبذير وإسراف

TT

شرع الله تعالى أحكامه وفرائضه، لتحقيق مصالح الأفراد والمجتمعات وصيانتها عاجلا أو آجلا. فالمتعمق في فريضة الصيام، يدرك أن الله تعالى قد شرعها لحكم وأبعاد ومعان كثيرة سامية، فالصوم فرصة عظيمة لإعداد وتربية وتزكية وتهيئة النفس البشرية على تقوى الله تعالى ومراقبته في السر والعلن. ومن بين أبعاد الصيام المهمة، الأبعاد الاقتصادية الكثيرة، التي قد لا يدركها البعض، فللأسف ما إن يأت شهر رمضان المبارك، تبدأ وسائل وفنون الإعلام والدعاية والإعلان في الترويج المكثف للكثير من السلع والمنتجات الغذائية، وأيضا الاستعداد المكثف والمبكر للأسر لإعداد خطط غير عادية تتضمن مضاعفة في ميزانيات التسوق والاستهلاك وشراء وتكديس الكثير من أصناف الطعام والشراب، التي تذهب غالبيتها إلى حاويات القمامة بعد الإفطار، الأمر الذي يعد هدرا في استهلاك الموارد، ثم يشتكي الكثيرون من عدم كفاية الدخل الشهري لمتطلبات هذا الشهر الكريم، في حين أن الفهم الحقيقي لهذا الشهر الكريم وأبعاده الاقتصادية، يتمثل أولا في الإعداد المكثف لخطط إيمانية لمضاعفة الطاعات وميزان الأعمال الصالحة، وصياغة أنماط استهلاكية رشيدة، تسهم في النمو الاقتصادي للفرد والمجتمع، فهناك كثير من العادات الاستهلاكية السيئة في شهر رمضان، من تبذير وإسراف وسوء استغلال البعض للمواد والسلع الغذائية التي تعد من بين النعم التي أنعم الله بها على عباده والتي سوف يسألون عنها، وهذه العادات السيئة بعيدة كل البعد عن ديننا الإسلامي الحنيف الذي نهى عن التبذير والإسراف في الاستهلاك، حيث وصف الله تعالى المبذرين بأنهم إخوان الشياطين، قال تعالى: «إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا» (الإسراء: 27)، وقال تعالى: «وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين» (الأعراف: 31).

لقد فرض الله تعالى الصيام لتربية أخلاق المسلم على الكثير من الأخلاق السامية، التي من بينها الشعور بآلام الجوع والعطش وحاجات الفقراء والمحتاجين، فالفرد لا يدرك ويستشعر معاناة وآلام المحتاجين والمحرومين، ما لم يعش تجاربهم وآلامهم، على الأقل أن نتذكر عند الإفطار الظروف المعيشية بالغة السوء التي يعاني منها الكثير من الأفراد حول العالم، كما في حالة المجاعة التي يتعرض لها شعب الصومال، وما نتج عنها من مقتل الآلاف، معظمهم من الأطفال، ونزوح ولجوء الآلاف بحثا عن الطعام والماء. فالصوم فرصة لتحريك مشاعر ودوافع الإحسان والعطف على الفقراء والمحتاجين، لمواساتهم والتخفيف والتوسعة عليهم، وتحقيق معاني التكافل الاجتماعي والأخوة الإنسانية في أسمى معانيها، والمساهمة في تقليص الفوارق بين طبقات المجتمع، كما أن الصوم فرصة أيضا لكسب ثقافة وعادات استهلاكية جديدة وصحيحة وأنماط غذائية صحية، يمكن أن تقي من الكثير من الأمراض مثل البدانة وزيادة الوزن.

ويمكن تلخيص الأبعاد الاقتصادية للصوم في: تربية النفس على الرضا والقناعة وتخليصها من الكثير من الرذائل مثل الشراهة في الاستهلاك والجشع والطمع والمتسببين في الكثير من المفاسد الاقتصادية مثل الغش والاحتكار ورفع السلع، حيث نجد أن بعض التجار في رمضان، لا يكتفون بالربح الحلال، ويعتبرون هذا الشهر موسما سنويا مهما وفرصة لترويج ورفع أسعار السلع والمواد الغذائية، لتنتفخ جيوبهم وتنفرج أساريرهم، لقد نسي هؤلاء التجار أو تناسوا أنه موسم إيماني مهم لجني الطاعات والأعمال الصالحة والإكثار من الصدقات والجود والتخفيف لا التضييق على الصائمين، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم، جوادا وأكثر ما يكون في رمضان، فقد روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل عليه السلام، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة» (رواه البخاري).

كما أن الشارع الحكيم لم يفرض الصيام للنوم والكسل والخمول، وتقليل الإنتاج وتعطيل مصالح الجماهير، بل إن الصوم فرصة لاختبار قدرة الفرد على الصبر على العمل والعطاء والإنجاز والإنتاج، وكان سلفنا الصالح، رضوان الله تعالى عليهم، خير قدوة في الصبر على الجوع والعطش والعمل والإنتاج والإنجاز وتحقيق الكثير من الانتصارات العظيمة في شهر رمضان. كما أن الفدية لغير المستطيع الصيام، والكفارة لمن تعمد الإفطار في رمضان، وزكاة الفطر التي هي طهرة للصائم مما وقع فيه من اللغو والرفث، وعون للمساكين، تعد جميعها من أعظم أساليب التوسعة الاقتصادية على الفقراء والمحتاجين في هذا الشهر، وتقوية لصلات وروابط التراحم والتكافل والتعاطف بين المسلمين في أسمى معانيها، وتحسين لأوضاع الطبقات الفقيرة في المجتمعات.

شهر رمضان فرصة ومدخل مهم لتزكية النفس وتدريبها وترويضها على الامتثال لأوامر الله تعالى، واكتساب عادات اقتصادية صحيحة مثل الاقتصاد في الاستهلاك وما يتضمنه من مفاهيم اقتصادية مثل التوفير والادخار وتجنب الإسراف والتبذير وحسن التصرف في الموارد والأموال وترتيب الأولويات في الشراء والاستهلاك، التي حث عليها ديننا الحنيف، وبدأت الدراسات الاقتصادية حديثا في الاهتمام والأخذ بها، ضمن ما يسمى التربية الاستهلاكية.