«مدفع رمضان» و«ابن ماجد» و«أم حديجان».. سمات شهر الصوم في الرياض في العقود الماضية

طلقة واحدة كل على حدة .. دخول رمضان.. موعد الإفطار ..السحور ..الإمساك .. وحلول العيد

ساحة الصفاة قديما
TT

اختفت مؤخرا، وخلال العقد الحالي، سمات رمضانية ارتبطت بشهر الصوم ولم يتبقَّ من مظاهر شهر رمضان سوى أطباق رمضانية ارتبطت بالركن الرابع من أركان الإسلام. ولعل أبرز السمات التي كانت سائدة قبل أربعة عقود مدفع رمضان الذي كان يأخذ عدة مواقع من أحياء العاصمة الرياض، يطلق طلقاته مع بداية الإعلان عن حلول شهر الصوم، وعند الإفطار، وبدء السحور، والإمساك، ثم يختتم طلقاته نهاية رمضان بالإعلان عن حلول عيد الفطر. ومع كل طلقة يبدأ الشيخ عبد العزيز بن ماجد برفع أذان المغرب بصوته المميز من الجامع الكبير وسط العاصمة السعودية، ويتم نقل شعائر الأذان على الهواء مباشرة من إذاعة الرياض، في حين تبدأ ساعة الصفاة المجاورة للجامع الكبير والتي صمتت منذ أكثر من ثلاثين عاما في دق اثنتي عشرة دقة، يعقبها صوت المذيعة معلنا انقضاء نهار حافل بالكفاح والكد والتعب، وسقوط ورقة من التقويم بانقضاء يوم من أيام رمضان المبارك، لتتعالى بعدها أصوات مكبرات الصوت المنبعثة من المساجد، في الأحياء ذات المنازل الطينية. وأعقبه بعد وفاته ابنه الشيخ عبد الرحمن بن ماجد، ولا يزال قائما بالمهمة إلى اليوم.

وفي حين يتحلق أفراد الأسرة على مائدة الإفطار تتركز نظرات الأطفال على شراب التوت انتظارا لإشارة الأم ببدء تناوله، وجهاز الراديو موضوع في الوسط انتظارا لبدء بث برامج مائدة الإفطار. ويبدأ الصغار بالخروج من منازلهم سراعا متجهين إلى مسجد الحي حاملين دلال القهوة والتمر وحبات من السمبوسة واللقيمات، وقدور الشوربة (الحساء)، وصحون الأرز، حيث يتجمع عزاب الحي ينتظرون إفطار الصائم الذي تعده ربات الأسر لصالحهم كسبا لأجر هؤلاء الصائمين، وما هي إلا لحظات حتى يبدأ سكان الحي بالتقاطر إلى المسجد الوحيد لأداء صلاة المغرب، ثم العودة سريعا إلى منازلهم لمتابعة المسلسل اليومي «أم حديجان» الذي يبث طيلة شهر الصوم من إذاعة الرياض، واستكمال تناول وجبة الإفطار التي لا تتعدى طبق الشوربة المعدة من الجريش، وخبز التميس الشعبي، واللقيمات المغموسة بالعسل أو السكر المذاب، وصحون المهلبية، والكاسترد (التطلي).

وكان مدفع رمضان سمة من سمات شهر الصوم قبل أربعة عقود، وكان الصغار يحرصون على الوجود بالقرب منه لمشاهدة الحدث الذي يتكرر يوميا خلال رمضان وهم يتابعون منظر أكياس الخيش (الجوت) وهي تتطاير من فوهة المدفع بعد أن يشعل العسكري النار في قطعة من الخيش ويرميها في فوهة المدفع المحشو بالبارود.

ويعد مدفع رمضان أسلوبا من الأساليب المستخدمة في الإعلان عن دخول شهر رمضان المبارك وموعد الإفطار والإمساك في كل يوم منذ دخول الشهر الكريم حتى حلول عيد الفطر، وهو تقليد متبع في الكثير من الدول العربية والإسلامية، حيث يقوم المدفع بإطلاق عدد من الطلقات ابتهاجا بدخول الشهر الكريم والإعلان عن ذلك، وقد خصص لهذا المدفع مواقع في معظم المدن ومنها العاصمة الرياض، لمباشرة مهامه في إطلاق طلقاته الصوتية للإعلان عن دخول الشهر الكريم وموعد الإفطار وبداية وقت السحور والإمساك.

وقد خصص عدد من رجال الأمن للعناية بمدافع رمضان وتجهيزها وتهيئتها وصيانتها وتنظيفها منذ وقت مبكر وطيلة الشهر الكريم وإطلاق الذخيرة الصوتية عند الإفطار وقبل السحور وعند الكفاف قبل صلاة الفجر.

وقد كان في الرياض عدة مدافع في مواقع مختلفة في عدد من أحياء العاصمة، وقد اختفى الآن حيث لا يوجد منها شيء بسبب توفر وسائل الإعلان المختلفة والمتنوعة عن دخول الشهر الكريم والإفطار والإمساك ووسائل الاتصال المتعددة مما جعل الحاجة إلى استخدام المدفع للإعلان عن ذلك غير ضرورية وإنما يتم استخدامه كرمز من الرموز والطقوس الرمضانية الموروثة في عدد من الدول الإسلامية والعربية.

وكان يتم تجهيز المدفع قبل حلول الشهر بالذخيرة اللازمة التي يتم استخدامها طول الشهر، حيث يطلق مع بداية الإعلان عن دخول الشهر الكريم سبع طلقات، كما يطلق 4 طلقات في كل يوم طلقة عند الإفطار وطلقة في الساعة الثانية صباحا للإعلان عن بدء موعد السحور، وطلقتان عند الساعة الرابعة والنصف صباحا للإعلان عن موعد الإمساك، وهذه الطلقات من البارود فقط وتحدث صوتا يسمعه معظم سكان المدينة، كما يطلق عدد من الطلقات عند الإعلان عن موعد دخول عيد الفطر ابتهاجا بهذه المناسبة، ويبلغ مجموع الطلقات التي يطلقها المدفع منذ دخول شهر رمضان المبارك حتى الإعلان عن دخول عيد الفطر المبارك 150 طلقة بارود، وزن كل طلقة كيلو ونصف من الكبسولات المملوءة بالبارود.

أما إحدى سمات الرياض في رمضان قبل عدة عقود فهي الجامع الكبير في الرياض الذي يعد من أكبر وأهم المساجد في منطقة نجد، بل ويعد واحدا من أقدم المساجد في المدينة، مع تغير مسمياتها على مدى القرون الماضية، ويعرف الآن بجامع الإمام تركي بن عبد الله، الذي اتخذ من الرياض قاعدة لحكمه، عندما انتقل إليها في منتصف عام 1240هـ (1825)، وأدخل زيادة في الجامع من الجهة الجنوبية وبعض الإصلاحات الأخرى، كبنائه للأسوار المدمرة عقب الأحداث التي شهدتها المدينة في تلك الفترة.

وظل المسجد يقوم بدور الجامع الكبير في المدينة لعقود طويلة، وشهد عدة إضافات وإصلاحات خلال هذه العقود، لعل أبرزها ما تم في عهد المؤسس الملك عبد العزيز، من بنائه بناء حديثا وإنارته لأول مرة بالكهرباء، بعد إطلاقها في المدينة، ثم افتتح الملك فهد بن عبد العزيز، الجامع بعد إعادة بنائه في نفس موقعه السابق ضمن مشروع تطوير منطقة قصر الحكم.

واشتهر الجامع على مدى قرون بحلقاته العلمية، حيث أدى دورا علميا لافتا، كما وصلت شهرته إلى خارج حدود الجزيرة العربية، وأفاض الرحالة الذين زاروا الرياض في وصف المسجد، ويشير راشد بن محمد العساكر، في كتابه «تاريخ المساجد والأوقاف القديمة في بلد الرياض إلى عام 1373هـ (1954)»، إلى أن الجامع الذي يعرف حاليا بجامع الإمام تركي بن عبد الله هو جامع بلد مقرن.. الرياض قبل إطلاق هذا المسمى عليها، ويقع في قصبة القديمة، ومقرن هي إحدى أهم محلات بلد.. حجر اليمامة قبل إطلاق مسمى الرياض الشامل، في ما بعد الثلث الأول من القرن الثالث عشر.

أما ساعة الصفاة في منطقة قصر الحكم وسط العاصمة السعودية فتقف اليوم على كنوز من الذكريات، بعد أن ظلت لعدة سنوات تنبض بالحياة، ومعلما من معالم مدينة الرياض التي طالتها أيدي التغيير خلال نصف قرن بعد أن قاد الأمير سلمان بن عبد العزيز ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع عندما كان أميرا للرياض النقلة الكبيرة للمدينة التي أضحت اليوم إحدى الحواضر العالمية الكبرى.

وسجلت ساعة الصفاة أو ما يعرف بساعة «بيغ بن السعودية» اسمها قبل أكثر من أربعة عقود ضمن معالم العاصمة السعودية، وظلت الساعة تقف شامخة إلى اليوم ضمن ساحة الصفاة التي تطل على مباني: جامع الإمام تركي بن عبد الله المعروف باسم الجامع الكبير، وإمارة منطقة الرياض، وحراج بن قاسم، وأسواق السدرة، ومحلات الصرافين والعيادات الطبية الخاصة، وصيدلية «شبيب» الشهيرة، والمحكمة الكبرى، واستوديو «النصر» أحد أقدم محلات التصوير في الرياض، لتحتل الساعة اليوم مكانا منزويا في نهاية شارع الثميري وبالقرب من السور الشرقي لقصر الحكم، مغطية المباني في المنطقة، لا ترى إلا عن قرب في حين كانت واضحة المعالم وتُرى من بُعد. وبقيت الساعة على شكلها القديم بعد أن طالت المنطقة يد التطور ضمن مشروع تطوير قصر الحكم، لكنها بقيت صامتة إلا من حركة عقاربها بعد أن كانت دقاتها تسمع في مختلف مشارف المدينة بصوت نسائي ينساب في السماء كل ساعة.

وقدمت ساعة الصفاة لسكان المدينة خدمة تحديد الوقت إما بالسماع وإما بضبط عقارب ساعاتهم على دقاتها مغرب كل يوم عندما تصل الساعة إلى الثانية عشرة مغربا، حيث تكون الشمس قد بدأت بالأفول، ليبدأ السكان بضبط ساعاتهم ماركة «أم صليب»، في وقت ينطلق الأذان من مسجد الإمام تركي بن عبد الله بصوت أقدم مؤذن في الرياض الشيخ الراحل عبد العزيز بن ماجد، معلنا دخول وقت صلاة المغرب، لتختلط دقات ساعة الصفاة مع ألفاظ الأذان ليُسمعا معا في أغلب أرجاء المدينة.

ارتبطت ساعة الصفاة بذكريات جميلة لدى سكان الرياض، خصوصا كبار السن، فلا تزال الأذن تحتفظ بتسجيل دقاتها التي كانت تسمع في كل أرجاء المدينة المحدودة السكان آنذاك وبالذات عندما يسدل الليل ستاره عليها بشوارعها المحدودة ومنازلها الطينية، قاطعة بذلك سكونها وهدوءها، كما ارتبطت ساعة الصفاة بالساعة البيولوجية للسكان الذين كانوا ينصرفون من وسط المدينة وسوقها الشعبية الوحيدة «سوق المقيبرة» عندما تدق الساعة الثانية عشرة مساء (ساعة الغروب) بالتوقيت السائد آنذاك والمعروف بالتوقيت الغروبي، معلنة انقضاء نهار حافل بالركض والعمل والكفاح وبداية ليل جديد لتعاود الساعة دقاتها كل 60 دقيقة طوال اليوم. وخلال هذه العقود الأربعة أصيبت الساعة بالخرس وظلت منذ سنوات صامتة، فلم يعد يسمع السكان دقاتها المميزة والصوت الأنثوي الذي ينبعث منها ويغطي سماء المدينة معلنا: «الساعة الآن في الرياض..... و..... دقيقة، دن دن دن»، وعند كل صوت يتطلع البعض إلى الساعة التي في معصمه وأغلبها ماركة «أم صليب»، ويطابق عقاربها مع توقيت ساعة المدينة التي لا تقل شهرة عن ساعة «بيغ بن» اللندنية.

وأعادت أجواء رمضان الحالية، وفي ظل تسابق الفضائيات على كسب الجمهور وقت الإفطار والسحور، ذكريات عن إحدى سمات الرياض وعموم مناطق السعودية خلال شهر الصوم، ومنها البرامج والمسلسلات الإذاعية التي كانت تقدم عبر الإذاعة وقبل انتشار الفضائيات وفي ظل غياب التلفزيون المحلي أو محدودية انتشاره.

ويأتي المسلسل الإذاعي «أم حديجان» الذي كان يقدم في إذاعة الرياض قبل عدة عقود، وتحول مؤخرا إلى رسوم متحركة على إحدى القنوات الفضائية يتابعها الأبناء كما كان الأجداد والآباء يتابعون ذات المسلسل قبل نصف قرن عبر الإذاعة، في طليعة الأعمال التي تميزت بها الإذاعة السعودية وكسبت بها جمهورا عريضا وقام ببطولة وجميع أدوار المسلسل الفنان السعودي الموهوب عبد العزيز الهزاع، الذي اشتهر بتقليد الأصوات لدرجة أن لديه القدرة على تقليد 15 صوتا في وقت واحد، وهو ما جعله يلفت النظر في بدايات تفتق موهبته وينال حظوة عند الملوك والرؤساء في الدول العربية، ويكسب جمهورا عريضا في جميع أنحاء العالم العربي بل والعالم كله.