الفسيفساء والعجمي والزخارف أعمال رائعة بالمسجد الأموي في دمشق

ما زالت تذهل كل من يشاهدها.. ويحار الزائر كيف سيحفظ كل هذا الجمال الزخرفي

فسيفساء مدخل المسجد الأموي في دمشق («الشرق الأوسط»)
TT

عندما أمر الخليفة الأموي، الوليد بن عبد الملك، ببناء المسجد الأموي الكبير سنة 86هـ/ 705م واستغرق البناء عشر سنوات كان له مقولة شهيرة مخاطبا فيها سكان دمشق، وهي: «تفخرون على الناس بأربع خصال؛ تفخرون بمائكم وهوائكم وفاكهتكم وحماماتكم، فأحببت أن يكون مسجدكم الخامس».

وبالفعل وبإجماع كل من زار المسجد من رحالة وخبراء آثار ومؤرخين وباحثين في العمارة والتراث فإن المسجد جاء كما أراده الخليفة الوليد في غاية الروعة والجمال والإتقان المعماري والزخرفة العربية الإسلامية في كل أقسام المسجد ومبانيه ومآذنه وقبته الرائعة، فزاد في خصال دمشق الأربع خصلة ومفخرة جديدة شكلّت علامة بارزة في نسيج دمشق المعماري والتراثي.

والمسجد الأموي الذي لا يمكن لزائره إلا أن يتجول في مختلف أقسامه، يحار فيه الزائر كيف سيحفظ في ذاكرته كل هذا الجمال المعماري والزخرفي وخاصة تلك الأعمال الفسيفسائية الزخرفية ولوحات العجمي التي تستقبل الزائر ما إن يلج المسجد من بابه الرئيسي المواجه لساحة المسكية والمسمى الباب الغربي أو باب البريد، وما إن يخلع حذاءه ويدخل من الباب يستقبله موظف الاستقبال، الذي يقدّم للنساء الزائرات غير المحجبات العباءة التي تغطي شعر الرأس والجسد، وإذا ما رفع الزائر رأسه وهو ما زال في الممر الموصل لصحن المسجد الواسع سيشاهد في السقف الجملوني الشكل وفي جدران المدخل أعمالا زخرفية رائعة من الفسيفساء والعجمي وغيرها، وربما سأل نفسه: إذا كنت لم أدخل بعد المسجد ورأيت كل هذا الجمال فكيف الحال في الداخل؟ ولن ينتظر طويلا الإجابة لتأتي بشكل تلقائي، حيث ما إن ينطلق نحو الصحن الواسع جدا بعد الممر الضيق نسبيا إذا ما قورن بالصحن فإنه وأينما جال بنظره يمينا وشمالا سيشاهد على جدران المسجد أعمالا زخرفية رائعة وهي (وحسب المؤرخين) جزء قليل مما كان يزخر به المسجد، حيث احترق بعضها وأزيل بعضها الآخر في العصور اللاحقة التي مرّت على المسجد بسبب آراء واجتهادات بعض حكام تلك العصور.

ولحسن الحظ، فإن ما بقي من بعض هذه الأعمال الرائعة وحسب الباحثين كان بسبب قيام المعنيين قبل مئات السنين بتغطية هذه الأعمال بطبقة من التراب والكلس وبالتالي ظلّت موجودة حيث ظهرت مرّة ثانية عندما تم ترميم المسجد في قرون لاحقة. ومن أجمل الأعمال الفسيفسائية التي تزين جدران المسجد تلك اللوحة العملاقة التي توجد على يمين الزائر وهو يدخل إلى الصحن، والتي يطلق عليها «لوحة بردى» لما تتضمنه من رسوم وزخارف تبرز طبيعة دمشق الخلّابة وغوطتها ونهرها الجميل بردى, ويشرح الباحث الأثري الدكتور عفيف بهنسي موضحا معاني وجماليات هذه الأعمال الزخرفية: «تعد الرسوم الفسيفسائية في الجامع الأموي بدمشق، الذي أنشئ في عهد الوليد بن عبد الملك، من أبرز شواهد الفن التشكيلي العربي في بداية تكونه، ومع أن الرسوم الفسيفسائية في قبّة الصخرة كانت الأسبق قليلا من نظائرها في الجامع الأموي, فإن هذه تبدو أكثر اكتمالا وأوسع انتشارا على جدران الجامع الأموي وأوضح مدلولا في موضوعها، ثم هي أكثر استقلالا عن تأثيرات الفن السابق للإسلام». وليس من شك أن صنّاع تصميم هذه الفسيفساء في الجامع الأموي الكبير هم من أهل دمشق، كما تؤكد مارغريت فان برشيم، مواطنون محترفون استطاعوا أن يصنعوا الفصوص الزجاجية في بلد عريق بصناعة الزجاج, فلقد عثر خلال التنقيبات في منطقة القشلة في باب توما بدمشق القديمة على آثار مشاغل لصناعة فصوص الفسيفساء الزجاجية. وبالنسبة للوحة «بردى» في الجامع الأموي (يوضح بهنسي) فقد درست من قبل العالمين؛ مارغريت فان برشيم وأوستاش دولوره حيث تقع هذه اللوحة على مقربة من المدخل الرئيسي من الجهة الشرقية وتمتد بمساحة كبيرة بطول 34.5 متر وارتفاع 7.5 متر، ولقد أطلق دولوره على هذه اللوحة اسم «لوحة نهر بردى»، إذ تمثل اللوحة نهرا يخترق مشاهد من أطراف دمشق أو من غوطتها مع ما في هذه المشاهد من أشجار باسقة كالنخيل أو السرو أو أشجار مثمرة كشجر التفاح والمشمش.

ولأن المسجد الأموي الكبير يشكل بعمارته الفريدة وموقعه الروحي والتاريخي الهام فقد خصص أحد مبانيه ليكون متحفا خاصا بالجامع افتتح في عام 1989، وتم مؤخرا إعادة ترميمه وتنظيم المعروضات فيه وافتتاحه ليشاهد الجمهور الزائر مقتنياته الفريدة فالمتحف الموجود في الجناح الجنوبي الشرقي من المسجد يضم نفائس وآثار مهمة كالشواهد الحجرية والسجاد ولوحات مختلفة من الخط العربي ووسائل الإنارة والتوقيت والفسيفساء والخزف والزجاج والنقود العربية وصفحات مخطوطة من القرآن الكريم، بالإضافة إلى عدة ألواح ووثائق منها لوحة حجرية مزينة بزخارف نباتية تحمل آثار تذهيب من العهد الأموي، وهناك جزء من لوحة تعود إلى أيام الخليفة العباسي المقتدر بالله، وهناك أجزاء من محراب مزينة بزخارف كتابية ونباتية متشابكة من العهد الأيوبي ولوحة باسم السلطان الأشرف أبو النصر قايتباي تحمل تاريخ شعبان سنة 886هـ.