الفسقيات والبحرات التزيينية.. فن معماري إسلامي انطلق من دمشق وزينت بها باحات المساجد والقصور والبيوت الشامية التقليدية

انتشرت منذ العصر المملوكي وتميزت بها دمشق لوفرة المياه فيها

جانب من فسقيات تزين بها المساجد والقصور الدمشقية («الشرق الأوسط»)
TT

قبل نحو من 800 سنة وعندما زار الرحالة الشهير ابن جبير مدينة دمشق وشاهد فيها كثرة الينابيع وفرة المياه قال كلمة معبرة في ذلك وهي «كأن أرضها قد كرهت الماء واشتاقت للظمأ». وقد استغل الدمشقيون هذه الوفرة في المياه بالاستفادة منها في منازلهم التقليدية، حيث لم يكن يخلو منزل دمشقي قديم من بحرة ماء في فسحته السماوية الواسعة كما تفنن حرفيو هذه البحرات التي أشادوها من الرخام المجزع والملون بتقديم لوحات فنية جميلة منحوتة ومزخرفة بشكل جميل بحيث تحقق متعتان للساكن والزائر وهما الاستمتاع بحركة الماء وهي تتدفق من البحرة الواسعة وما تسببه من ترطيب وتبريد للمناخ خاصة في فصل الصيف الحار نسبيا في دمشق ومتعة مشاهدة عمل فني يدوي، وقد أدخل هؤلاء الحرفيون الدمشقيون الماهرون إبداعاتهم إلى باحات المساجد والقصور والبيوت الكبيرة التي تشتهر بها دمشق منذ مئات السنوات حيث لم يكتفوا بإشادة البحرات الجميلة الواسعة في الفسحات السماوية وأرض الديار بل أدخلوها إلى الغرف والقاعات الواسعة وخاصة قاعات الاستقبال والنوم في القصور وأطلقوا عليها اسم الفسقيات بحيث تكون أصغر من البحرة مع المحافظة على جمالياتها وزخارفها ووجود المصب الذي يأخذ شكلا متميزا يخرج منه الماء ويكون مصنعا يدويا أيضا من النحاس أو حتى من الفضة حسب رغبة وثراء صاحب المنزل أو القصر. كما أدخل الحرفيون الدمشقيون نوعا من البحرات يسمى الشادروان وهو مصطلح فارسي يطلق على حلية معمارية يخرج منها الماء.

وإذا كان المهتمون والباحثون يرجعون انطلاق هذا الفن الدمشقي في تصميم البحرات والفسقيات إلى العصر المملوكي فإنه قد استمر حتى العصر الحالي مع استمرار عدد من الأسر الدمشقية المتخصصة فيه منذ عشرات السنين بالعمل به ونقل هذا الفن الدمشقي إلى بلدان الخليج والقصور هناك وإلى المغرب العربي ولعدد من البلدان الأوروبية، كما يعمل حرفيو هذه الأسر على ترميم البحرات القائمة في المساجد والقصور الدمشقية ومن أشهر الأسر الدمشقية التي عملت في فن البحرات والفسقيات هناك عائلات المسوتي والبعريني والأيوبي وغيرها.

كما برع الحرفيون في إبقاء هذا الفن المعماري والزخرفي موجودا ومستمرا حتى اليوم فإن العديد من زملائهم استلهموا من فن البحرات والفسقيات والشادروانات تصاميم جديدة تتناسب مع متطلبات العصر وتزيد من جمالياته جمالا وروعة، وكان أكثر من عمل بهذا الفن الجديد المستند للتراث عدد من خريجي مدارس ومعاهد الفنون الجميلة والتطبيقية حيث استندوا في عملهم على ما تعلموه بفنون الخزف والفخار والنحت فقدموا بحرات وشلالات وشادروانات بتصاميم بديعة تختصر فنون الزخرفة والنحت مع الاستفادة من تقنيات العصر في الكهرباء والإضاءة التزيينية وحتى استخدام محركات (مضخات) تسمح بإعادة المياه وتدويرها بشكل دائم دون الحاجة للاستغناء عنها وتصريفها، ويشرح محمد خرفان أحد المشرفين على ورشة لتصنيع الشلالات المائية والبحرات يدويا بدمشق واقع هذا الفن المعتمد على التراث قائلا: تختلف هذه المنتجات المعاصرة عن التراثية في المادة التي تصنع منها فالمعروف أن البحرات القديمة تصنع من الحجر الرخامي المشقف بينما حاليا نعتمد على التربة الطبيعية وخاصة على نوع من الصخور والأحجار نأت بها من الجبال ونأخذها إلى معامل تطحنها وتحولها إلى رمال حيث نعمل على تنقيتها من الشوائب ونقوم بعد ذلك بخلطه مع الماء لتصويله ومن ثم يوضع على الأسطح لتجفيفه تحت أشعة الشمس وبعد ذلك يتم عجنه ليتحول إلى قوام متماسك ومن ثم نقوم بقولبته يدويا ومن خلال دولاب خاص كما هو حال تصنيع الفخاريات والخزفيات. وبعد ذلك يقوم الحرفي بتصنيع البحرات والفسقيات والشلالات وبشكل فني وبنماذج وتصاميم مختلفة قد تصل لمئات الأشكال ما بين أحجام صغيرة توضع على طاولة أو في زاوية من غرف منزلية وما بين أحجام كبيرة توضع في قصور وفلل كنافورة مياه وتأخذ هذه الأشكال عادة لون التربة الأساسية ولكن نقوم بتلوينها بشكل جميل باستخدام أسلوب التعتيق (إظهار البحرة والنافورة وكأنها قديمة تراثية) والذي يمر بمراحل متعددة - يعددها خرفان - وهي وضع طبقة عازلة على المنتج حتى لا يتأثر بالمياه والرطوبة ومن ثم نقوم بطليه بدهان عادي وبعدها نستخدم مواد تعتيق خاصة تعطيه اللون المطلوب.

هناك جهد كبير في هذه المنتجات حتى تبدوا بهذا الشكل التركيبي - يوضح خرفان - فمثلا كما ترى فإن إنتاج شلال كبير يتطلب تصميم عشرات القطع ومنها المكونات الأساسية له والمشربيات الفخارية والأشكال الفنية كمغارة طبيعية مثلا موجودة في تصميم الشلال وغير ذلك ومن ثم تجميعها وتركيبها بشكل فني متقن حتى تعطي الشكل المطلوب والذي يكون عادة مستلهم من الماضي والتراث أو حتى من خيال الحرفي أو حسب ما يرغبه الزبون الذي يأتي ولديه تصميم معين لشلال أو بحرة يريد من الحرفي أن ينفذّه له ويمكن الاستفادة أيضا من تقنيات الكومبيوتر في تصميم نماذج من هذه المنتجات اليدوية.