«السقدانة» ولعبة «المعكيرة».. ملامح رمضان الحية في جدة القديمة

الشهر الفضيل في جدة على مر العصور

جانب من البنايات القديمة في جدة التاريخية
TT

جدة التي بناها مجموعة من الصيادين قبل ثلاثة آلاف عام، واستوطنتها قبيلة قضاعة بعد ذلك التاريخ بنحو 500 عام، لتنسب - وحسب الروايات - تسمية عروس البحر الأحمر «جدة» إلى أحد أبناء القبيلة. ومن تلك الحقبة وحتى يومنا هذا ظلت جدة مرسى للباحثين عن الثراء وتحقيق الأحلام.

تعيد جدة نفسها، وحكايات التاريخ والطموح، فمع ظهور الإسلام شكلت عروس البحر الأحمر منفذا مهما وموقعا استراتيجيا لكونها بوابة الحرمين الشريفين، وزادت أهميتها عندما قام الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه سنة 25 هـ باختيارها لتصبح ميناء رئيسيا لمكة المكرمة.

وازدادت جدة أهمية حتى أصبحت واحدة من أكبر المدن وأهمها في عهد الدولة السعودية بعد استخراج النفط، إلا أن البدايات كانت هي تلك البدايات القديمة في بيوت الطين والأزقة والحواري، داخل المنطقة التاريخية، التي يحيط بها سور شيده «حسين الكردي» أحد أمراء المماليك، لتحصينها من هجمات البرتغاليين، وكان للسور ستة أبراج، فتحت له ستة أبواب هي باب مكة، وباب المدينة، وباب شريف، وباب جديد، وباب البنط، وباب المغاربة، وتم إزالة السور في عام 1947 مع توسع العمران في العهد السعودي.

في تلك الحقبة، أي قبل ما يزيد عن الستين عاما، وفي أزقة جدة القديمة، قبعت هناك بعض الحكايات الراسخة على جدران الطين، وأكلات وألعاب يتسلى بها الصبية، خصوصا في شهر رمضان، إذا ما وضعنا في الحسبان ما كانت تعيشه المنطقة في تلك الفترة من نزاعات وحروب عربية عربية وعربية إسرائيلية، أثرت على الملاحة البحرية ونقل البضائع والأغذية إلى ميناء جدة، فعاشت جدة في تلك السنوات على القليل الذي يسير لها الأيام ومنها شهر رمضان.

لقد أثر العدوان الثلاثي الذي شنته «بريطانيا وفرنسا وإسرائيل» على مصر في عام 1956، وصادف العدوان أن كان قبل دخول شهر رمضان بأربعة أشهر، وكان التأثير عن طريق المعيشة داخل أسوار جدة، التي كانت تعيش على ما تحطه السفن على أرصفة مينائها من أغذية قادمة من الشرق والغرب.

ولعل نقص المواد جعل سكان جدة يعتمدون في موائدهم الرمضانية على أنواع جديدة تم استحداثها فيما أطلق عليها «الأكلات الشعبية الرمضانية»، منها «السقدانة» التي تحضر بماء ونشاء وشيء من الحليب، وكباب ميرو، وهو لحم يتم فرمه مع بعض الخضار ووضعه في أسياخ على الفحم، ثم الخشاف وتختلف بحسب مدخلاتها، فمنهم من يحضرها في شكل تحلية وآخرون يعدونها وجبة متكاملة.

وجميعها أكلات تطبخ في المنزل بقليل من التكلفة، وعدم التباهي بكميات اللحم الذي كان نادرا في ذلك الوقت، إضافة إلى وجبات السحور وهي حسب إمكانيات كل منزل، فمنهم من يتسحر على «السمك والأرز» والآخر على فتة اللبن، وبعض الأجبان إن كان ذلك متاحا.

ويقبل سكان جدة على شراء حاجاتهم من منطقة البلد، يليه سوق الخاسكية الذي يقع إلى جانب السوق الكبير، سوق الصاغة لتجارة الحلي والأحجار الكريمة، أسواق شارع قابل الذي يعد من أهم الأسواق التجارية، سوق الندى، وسوق البدو، وسوق اللحوم ويعرف باسم النورية، لشراء ما يوفرها السوق إن كانت الأوضاع الإقليمية مستقرة، وهي فترة عاشها سكان جدة تعد الأسوأ منذ إنشائها لانقطاع المؤن الغذائية القادمة من الخارج بعد إغلاق قناة السويس والعدوان الثلاثي على مصر.

من أهم معالم رمضان في تلك الحقبة انتشار ضوء (الفوانيس) المعلقة على الأعمدة، والتي تهدف في المقام الأول لإنارة الطرق، وثانيا فهي جامعة الأحبة للسمر والتباحث واللهو قليلا بأنواع مختلفة من الألعاب اندثرت في وقتنا الحاضر، كما يقول العم عبد الله سمير «من سكان حي الرويس» ومنها لعبة «العصفور» التي يقبل عليها الشباب، من خلال وضع أحد الشباب في حفرة ودفنه بقليل من التراب، ثم يسأل من الطرف الآخر «معانا ولا مع القوم» وإن أجاب «مع القوم» تزداد كمية التراب حتى ينطق بأنه معهم.

ومن الألعاب الشبابية تنتشر لعبة «الكبش» التي تلعب بعظام المواشي وتعتمد على فريقان في لعبها، ولعبة «المعكيرة» هي من أشد الألعاب، إذ يستخدم فيها قطعة قماش تلف وتبرم بشكل جيد حتى تصبح نحيلة، وينقسم فريقان للعبها من خلال إيجاد «الضاع» وهو حجر صغير يخبأ في أيدي الفريق الآخر، وإن لم يتم التوصل إلى «الضاع» ومعرفة اليد التي تخبئه، يتم ضرب أحد أفراد الفريق الخاسر على يديه، وهكذا تستمر اللعبة.

ويضيف العم عبد الله أن ختام شهر رمضان كان مختلفا قبل خمسين عاما عن ما هو عليه الآن، إذ كان ينشد شباب الحي أجمل الصور الفنية والأناشيد في أزقة الحارة، وهم يتجولون بين المنازل التي تعبر عن ترابط السكان إذ يردد في آخر يوم من رمضان (الوداع.. الوداع يا شهر الصيام). وتشهد بعض الأحياء الشعبية وسط وجنوب جدة محاولات خجولة لإعادة ذكريات رمضان القديمة، التي ارتبطت بالمحسراتي والفوانيس المعلقة على أعمدة الحارة، وجلسات العمدة، وبعض الوجبات التي كانت تعد في هذا الشهر الكريم، ولعل ما يذيب هذه الذكريات التي اندثرت بمرور الوقت وتعاقب الأجيال، لكبر المساحات ورحيل سكان الحي القدماء إلى شمال المحافظة بعد التوسع والتطور.

ويروي خالد الجهني أن استقبالهم لرمضان كان عبر سماعه من المذياع، وتنطلق فعاليات استقباله بقليل من المواد الغذائية التي كانت متوفرة في تلك الفترة، وحسب قدرة كل فرد بعيدا عن الاستهلاك غير المنطقي والمبالغ والبذخ في الشراء، ويبدأ أول أيام الشهر بالتجمع وتلمس احتياجات كل أسر الحي وتوفير النواقص لديها.

ويضيف العم خالد كنا نجتمع بعد صلاة العشاء في مركاز العمدة، أو أحد المجالس المنتشرة في الحي لنتبادل الأحاديث، وكيف كان كل شخص يحكي مغامراته بعد رحلة الصيد، إذ أن غالبيتنا يعمل في هذه المهنة التي تمارس بعد صلاة الفجر وحتى موعد الإفطار.

ما يقوله العم خالد مغاير تماما عما نعيشه الآن من رفع حالة الاستعداد والتأهب للانقضاض على مراكز التسوق والشراء، بكميات مرتفعة في المواسم كما في رمضان، وهو ما أشارت إليه دراسة في وقت سابق أن إجمالي ما يتم إنفاقه يقدر بنحو 46 مليار ريال سنويا، منها 28 مليار ريال لشراء احتياجات رمضان واللوازم المدرسية، فيما تنفق الـ18 مليارا المتبقية على مدار العام لتلبية احتياجات الأسرة، في حين تعتبر المدن الكبرى في السعودية الأكثر إنفاقا، لشراء المواد الغذائية والشوربة واللحوم والمعجنات والسكر والحلويات والعصائر بمختلف أشكالها والدقيق، ونحو ذلك من المواد الأكثر رواجا في شهر رمضان.

ذلك هو بداية الاختلاف عما كان، وما هي عليه الحال الآن في رمضان، بعد أن هجر الشباب بمحض إرادتهم ليل «الحارة» وسحر ليلها الساقط على ضوء الفوانيس والتجول بين أزقة الحي واللعب على أنغام الحكايات القديمة، ليغلب على طابعهم السهر في المخيمات، والمتنزهات وفنادق الخمسة نجوم، وهو ما يجعل الحي عرضة للسرقات ودخول الغرباء بعد أن هجره أصحابه، الذين كانوا يشكلون سكانه وحراسه قبل الأجهزة الأمنية.

وفي هذا الصدد، يؤكد مصدر أمنى أن وجود الشباب وبقاءهم في ليالي رمضان وغير ذلك داخل الحي يساعد في الحفاظ على النظام ومراقبة الحي من الغرباء، الذين يتسربون للحي في ظل غيابهم وسهرهم في مواقع مختلفة بعيدة عن الحي، إذ يعد المواطن رجل الأمن الأول، مشيرا إلى أهمية التعلم من دروس الماضي المتمثلة في آبائنا وكيفية التعايش في الشهر الكريم الذي يرتبط بالرحمة والمودة والتواصل مع سكان الحي والتنسيق المباشر وحل المشكلات خلال سهرات ليل رمضان.

ويأتي هنا دور مجالس الأحياء، وتوسيع دور العمدة في ربط سكان الحي وتجمعهم على مائدة واحدة للنقاش والتحاور، مع إيجاد البدائل التي تستقطب الشباب وإيجاد الأجواء التنافسية، مع إشراك الجيل السابق في طرح مقترحاته وأفكاره للخروج بحلة جيدة تتوافق مع معطيات العصر وحاجة الشباب.

ويطالب خالد الشريف، وهو إخصائي اجتماعي، بإعادة الآليات التي تجذب سكان الحي للبقاء فيه، وينقسم ذلك إلى عوامل جذب وعوامل طرد، وتتمثل عوامل الطرد في خلو الأحياء من مواقع تجمع الشباب، ومراكز الترفيه الشعبية التي كانت متداولة في السابق، معتبرا أن من عوامل الجذب تفعيل مراكز الأحياء الاجتماعية وتفعيل دورها لإعادة الموروث القديم، وتشجيع سكان الحي وممثلي القيادة في الحي في إيجاد مواقع لتجميع الشباب وإحيائها ببعض البرامج، منها توفير أدوات تعليمية وترفهيه، بما يتناسب وإنشاء المسابقات بكل أشكالها تحت مظلة سكان الحي وأشرافهم.

ويعمل عدد من عمد الأحياء الشعبية، وخصوصا ما تقع في محيط المنطقة المركزية لإيجاد الأجواء المناسبة ذات الطابع القديم، والمتمثلة في المجالس الشعبية «المركاز» والألعاب القديمة والحديثة، بهدف ربط الشباب بمنطقتهم ودمجهم مع كبار السن وهذا ما اتبعه عدد من أعيان وعمد الأحياء القديمة.

ويواجه عمد الأحياء انتشار ظاهرة الخيم في عدة مواقع يتوفر بها بعض الألعاب والمسليات، التي أسهمت في نزوح الشباب عن الحي، كما يواجه العمد في تحقيق مطلبهم، ما تعيشه بعض الأحياء الجديدة من تباعد وافتقاد للترابط الاجتماعي، وهي عوامل تستوجب إيجاد خطط مسبقة قبل قدوم رمضان وإنشاء مجالس لتجمع الشباب مع كبار السن تتخللها الألعاب.

ومن أسباب عزوف الشباب عن الأحياء الشعبية وممارسة الأنشطة في داخلها، وفقا للدكتور محمد أحمد استشاري علم نفس، استيطان العمالة الوافدة داخل الأحياء الشعبية؛ لانخفاض أسعار الإيجار وتجاورهم مع بعض سكان الحي، الأمر الذي يقلص عمليات التزاور والاندماج بين الأسر خلال السنوات الأولى، اختلاف أسلوب التفكير لدى الشباب في الوقت الراهن، والجهل في عملية قتل الوقت والاستفادة منه، وانكفاء الأسر في الأحياء الجديدة على نفسها وعدم الاندماج مع السكان والاختلاط بهم، مما يعكس ذلك على التصرفات الخارجية للأسرة من خلال التظاهر بأشياء كثيرة.

ويرى الدكتور محمد أن الحلول تتمثل في تكثيف جرعات الترغيب لدى الأطفال من خلال الزيارات للأحياء القديمة، مع ترغيبهم في المشاركة الجماعية، والأطفال والشباب في المشاركات الإنسانية وتحديدا في رمضان، وإيجاد وسائل ترفيه وعامل ربط بين الأجيال لتفعيل الدور الجماعي بين كل الفئات العمرية.

وبالعودة لرمضان في جدة القديمة فلا بد أن نتذكر «مسجد الشافعي» الواقع في حارة المظلوم، وقيل إن منارته بنيت في القرن السابع الهجري، كذلك «مسجد عثمان بن عفان» ويطلق عليه مسجد الأبنوس لوجود ساريتين من خشب الأبنوس، و«مسجد الباشا» الذي يقع في حارة الشام وبناه بكر باشا، وهي مساجد يستذكر فيها سكان المنطقة التاريخية بعضا من التاريخ وتجمعهم قبل الإفطار فيها وخارجها مع سدول أطراف الليل على شوارعهم.