«حليم» حيدر آباد الشهير يسيطر على موائد الإفطار طوال شهر رمضان

جاء إلى الهند من إحدى الإمارات الصغيرة في حضرموت

إعداد «حليم» الذي اشتهرت به حيدر آباد خلال شهر رمضان المبارك («الشرق الأوسط»)
TT

خلال شهر رمضان المعظم يسيطر طبق «حليم» الشهي اللذيذ، العلامة المميزة لشهر رمضان، على الموائد الرمضانية في حيدر آباد. فمعظم المطاعم والفنادق الإيرانية في هذه المدينة، اندفعت وراء جنون الحليم، بإنتاج هذا الطبق اللذيذ الطري. تملأ لافتات وأعلام تزيين، تحمل أسماء عديدة مثل «كاشميري حليم» و«زمزم حليم» و«بدامي حليم» و«إيراني حليم»، المنطقة المحيطة بمسجد مكة، حيث يحتشد العابدون للصلاة.

ثمة مفارقة متأصلة بشأن حليم حيدر آباد الشهير، حيث يرتبط شهر رمضان المعظم بالعزوف التام عن المتع المادية، لكن على الجانب الآخر يعتبر هذا الشهر أيضا بمثابة احتفاء بالتقاليد العتيقة وفرصة لتوطيد أواصر العلاقات الاجتماعية، والأهم من ذلك الاستمتاع بتناول الأطعمة الشهية. ويأتي طبق «الحليم» على رأس قائمة الأطباق المفضلة في شهر رمضان.

وصل طبق «حليم»، الذي يعتبر طبقا عربيا في الأصل، إلى حيدر آباد إبان فترة الحكم المغولي عبر إيران وأفغانستان. وظل جزءا لا يتجزأ من حيدر آباد خلال حكم النظاميين. ويوجد بمنطقة باركس بالمدينة القديمة، التي تضم العديد من المستوطنين العرب، أحد أنواع طبق «الحليم» الحلو أقل شهرة أيضا. ويتم تناول طبق «الميثي» (الحلو) كوجبة إفطار في المنازل التي يقطنها العرب في باركس. يقول سجاد شهيد، المؤرخ المقيم في حيدر آباد «العرب يتناولون الحليم كوجبة رئيسية، أما أهالي حيدر آباد فيتناولونه كمقبِّل».

على مدار فترة من الزمن، أتى التأثير المحلي بتعديلات وتغييرات في الوصفة الأصلية لهذا الطبق، بحيث يتوافق مع الذوق المحلي. وهذا جعل «حليم حيدر آباد» مميزا عن الأنواع الأخرى المتوافرة اليوم من هذا الطبق. يقول شهيد «كان السلطان سيف نواز جونغ هو من نشر طبق الحليم. كان سيف نواز جونغ، حاكم إحدى الإمارات الصغيرة في حضرموت (اليمن سابقا)، منحدرا من سلالة آل القعيطي الحاكمة، كما كان أحد أبرز نبلاء ولاية حيدر آباد. واعتاد تقديم الحليم، كنوع فريد في وجبات الغداء والعشاء التي كان يقدمها.

بيد أن الفنادق الإيرانية في المدينة بدأت في تقديم طبق الهريس إلى العامة. «كان الهريس، وهو شكل مختلف من طبق الحليم، رائجا في البداية»، يقول سجاد شهيد. ويضيف قائلا «في تلك الأيام، أثناء رمضان، اعتادت الفنادق تغطية المداخل بستائر احتراما للصائمين بالخارج». وعلى الرغم من ذلك، فقد كانت أول مرة يقدم فيها طبق حليم في فندق في مطلع الخمسينات من القرن العشرين، حيث يستطرد سجاد «قدم عمي، أغا حسين زابد، طبق الحليم لأول مرة في فندق المدينة في عام 1953. وكان سعره 3 بيزات في ذلك الحين». وتدريجيا، بدأت الفنادق الإيرانية الأخرى في بيع طبق الحليم أثناء شهر رمضان.

يذكر أنه من المعتاد تناول ملء صحن من طبق الحليم عند الإفطار خلال الشهر الفضيل. إن ما يجعل الحليم طبقا بارزا هو ارتباطه بوجبات احتفالية - تستبعده عملية الطهي كثيفة العمالة الممتدة لنصف اليوم من المأكولات المدرجة بقائمة الطعام اليومية. بشكل عام، تبدأ التحضيرات أثناء اليوم وتنتهي قرب الغروب لتتزامن مع موعد صلاة المغرب. يراقب أحد الخبراء عن كثب عملية التحضير؛ إذ يحتاج الطبق إلى تقليب مستمر. يطهى طبق الحليم على نار هادئة لمدة 12 ساعة في فرن قرميد. ويقوم طاه أو اثنان بخلط مكوناته جيدا باستخدام عصي خشبية كبيرة أثناء عملية الإعداد، إلى أن يصبح قوامه ناعما متماسكا.

ويدخل ضمن المكونات لحم الضأن ودقيق كامل وسمن ولبن وبذور عدس وزنجبيل وثوم وكركم وبذور كمون مطحونة وتوابل وقرفة وهال وقرنفل وفلفل أسود وزعفران وكباب جيني وفواكه مجففة (فستق وكاجو ولوز). وعادة ما يوضع على وجه الناتج النهائي الذي يبدو أشبه بالعجين مرق وسمن وقطع من الليمون وكزبرة مقطعة وشرائح بيض مسلوق وبصل محمر للتزيين. غير أن حليم الدجاج، المعروف أيضا باسم الهريس الإيراني، أقل شهرة، لكنه أرخص من حليم اللحم. وتجرى العديد من التجارب الآن بهدف اقتحام السوق التي لم يتم استغلالها بعد. والآن، يقدم طبق نباتي مشتق من الحليم، والذي تستخدم فيه الفواكه المجففة والخضراوات كبديل للحم، في بعض المطاعم المنتقاة في حيدر آباد. وقد أعلن أشهر مطعم يقدم الحليم في حيدر آباد، وهو «بيستا هاوس»، هذا العام عن «حليم نباتي» في المدينة.

«تمكنا من الوصول لوصفة مثالية للحليم النباتي بعد قدر كبير من المحاولة والخطأ»، يقول محمد عبد المجيد صاحب مطعم «بيستا هاوس»، أحد أبرز المطاعم التي تقدم طبق الحليم في المدينة أثناء شهر رمضان. ويضيف «غير أن المهمة لم تكن سهلة. تطلب منا الأمر مشاركة ما يقرب من 100 طاه يعتبرون خبراء في إعداد الحليم، واستمرت التجارب على مدار الأشهر الستة الماضية». وقال «بعد رفض 50 وصفة، تمكنا في النهاية من اختيار واحدة، والتي لم تبد فقط بالصورة التي يجب أن يكون عليها طبق الحليم، وإنما يبدو ملمسها ومذاقها مثاليا».

ويقول عبد المجيد إن فكرة الحليم النباتي أتت من أناس أرادوا معرفة ما إذا يمكن إعداد مثل هذا الطبق. ويضيف «يتمثل سبب آخر أدى بنا إلى تقديم طبق الحليم النباتي في العادات الغذائية سريعة التغير لسكان حيدر آباد. فقد بدأ المزيد والمزيد من الناس في التخلي عن الأطعمة الحيوانية لدواع صحية بالأساس. وعلينا أن نلبي احتياجات هذا القطاع من الزبائن، ومن ثم، قررنا إعداد الحليم النباتي».

لقد أصبح حليم حيدر آباد اللذيذ الشهي أغلى بنسبة تقدر بنحو 100 في المائة في موسم رمضان الحالي. وقال عبد المجيد، رئيس جمعية منتجي حليم حيدر آباد، إن ارتفاع أسعار المكونات أدى إلى ارتفاع سعر طبق الحليم الواحد (350 غراما) إلى 100 روبية هذا الموسم.

لقد أصبح تحضير طبق الحليم في حيدر آباد دربا من الفنون. وتقديرا لقيمته الثقافية وشهرته، منح طبق حليم حيدر آباد في عام 2010 تسمية جغرافية، والتي تعني أنه لا يمكن بيع أي طبق باعتباره حليم حيدر آباد ما لم تتوافر فيه المواصفات المحددة لطبق حليم حيدر آباد.

ويحصل الطهاة الذين يعدون طبق حليم حيدر آباد على رواتب عالية، تصل إلى 100 ألف روبية شهريا، إضافة إلى حوافز خلال شهر رمضان. في عام 2011، خلال شهر رمضان، باع 6 آلاف مطعم بأنحاء المدينة (70 في المائة منها تعمل بشكل مؤقت حتى انتهاء شهر رمضان)، مليار طبق حليم، بزيادة نسبتها 15 في المائة مقارنة بمبيعات عام 2010. وفي موسم رمضان في عام 2011، كان يتم تصدير نسبة 28 في المائة من أطباق حليم حيدر آباد في المدينة إلى خمسين دول حول العالم.

ويقول عبد المجيد إن معيار الحصول على شهادة التسمية الجغرافية محدد جدا، ألا وهو أنه يجب أن يتم إعداد الحليم من لحم الماعز فقط؛ وأن تكون نسبة اللحم إلى القمح 4 إلى 10؛ وأنه يجب أن يكون السمن مصدقا عليه من قبل أحد المعامل بوصفه نقيا بنسبة 100 في المائة؛ ومن الضروري أن يطهى الحليم لمدة 12 ساعة في وعاء من النحاس على الحطب.

ومثلما يشرح المؤرخ بوشبيش بانت «يعد طبق الحليم من القمح واللحم والسمن والسكر البني غير المكرر. عادة ما يستخدم أهالي حيدر آباد السكر البني كإضافة، حيث يروق لهم أن يكون مذاق طعامهم حلوا وحامضا في آن واحد».

وستفتح معظم مطاعم بيع الحليم في المدينة القديمة أبوابها في فترة منتصف الليل أثناء الموسم لإسعاد محبي الحليم، وهو نوع الطعام الذي يتجاوز الفروق بين جميع الأديان قاطبة. بالطبع، تكون هناك منافسة شرسة بين أصحاب الفنادق، وهو أمر طبيعي حينما يكون هناك أكثر من 6000 مركز لبيع الحليم بالمدينتين التوأم. حتى إن بعضها قام بتعيين أكثر من 100 نادل لتقديم الطبق للزبائن، الذين سيضمون أفرادا من جميع قطاعات المجتمع، وليس المسلمين فحسب.

وقد اتخذ «بيستا هاوس» خطوة إضافية بنقل حليم حيدر آباد إلى جدة ومكة والمدينة المنورة. وقد تم إرسال فريق مؤلف من 16 طاهيا من «بيستا هاوس» إلى هذه المدن لإعداد طبق حليم حيدر آباد للمسلمين هناك. «نقلنا طبق حليم حيدر آباد إلى الشرق الأوسط، وفي العام القادم سننقله إلى أوروبا والولايات المتحدة. لدينا كم هائل من الطلبات من مناطق مثل شيكاغو، لكننا عاجزون عن تلبيتها»، يقول محمد عبد المجيد، مضيفا أن «بيستا هاوس» قد تعاون أيضا مع وكالة النقل «غاتي» لتوصيل أطباق الحليم إلى أي مكان في العالم، حتى إنه أصبح يتم تصدير الحليم الآن.

وبعد أشهر من الصبر والتخطيط، توصل خبراء المأكولات في المدينة، بصرف النظر عن ديانتهم، إلى وصفات تجمعها صفة مشتركة يتم التلذذ بها بمجرد تناول أول قضمة من حليم حيدر آباد.

يقول بريمشاندرا إم، أحد خبراء المأكولات «كنت أنتظر بشغف أول طبق حليم للعام. أشعر بأن متعة تناول الحليم الحقيقية تكون في رمضان. ومع ذلك، علي أن أعترف بأنه لم يكن من السهل اختيار المكان الذي سأتناول فيه الحليم في اليوم الأول».

يقود عامر جويد سيارته متجها إلى المدينة القديمة بصحبة أصدقائه المسلمين، حيث إن معظم مطاعم الحليم الشهيرة توجد هناك. ويقول جويد «كل أصدقائي ينتظرون بلهفة حلول شهر رمضان لنتجه إلى المدينة القديمة في هذه الفترة من العام للاستمتاع بمذاق «أفضل طبق حليم» هناك. والجميع يفضلون بدء الاستمتاع بطبق الحليم بتذوق طبقهم الشخصي المفضل أولا.