تراتيل السماء بلحون العرب وأصواتها

في رمضان.. شهر القرآن

الصائمون درجوا على تلاوة القرآن الكريم خلال شهر رمضان (أ.ب)
TT

«الله أكبر الله أكبر.. أشهد ألا إله إلا الله.. أشهد أن محمدا رسول الله»، بهذه الكلمات ينادي المؤذن واقفا بين يدي العزيز الحكيم، يتوازى في وقفته مع الإمام، من دون أن يكون أحدهما تابعا أو متبوعا. فيما تلتف حلقات مضيئة للمصلين حول الكعبة الشريفة، في مشهد بانورامي لا يضاهيه في جماله وجلاله إلا تراتيل وتسابيح تسيل كالنهر العذب من حناجر، أوتيت من حلاوة الصوت ونداوته الشيء الكثير.

بوحي السماء الذي نزل به الروح الأمين ليكون قرآنا يتلى إلى قيام الساعة، وأذان باق ما بقيت السماوات والأرض، تحيا ليالي الشهر الكريم، عبر لحون عربية، تصديقا لقول نبي الأمة (صلى الله عليه وسلم) «اقرأوا القرآن بلحون العرب وأصواتها، وإياكم ولحون أهل الفسق، ولحون أهل الكتابين، وسيجيء بعدي قوم يرجعون بالقرآن ترجع الغناء والنوح، لا يجاوز حناجرهم، مفتونة قلوبهم وقلوب الذين يعجبهم شأنهم».

ولأن ربط المقامات الموسيقية بتلاوة القرآن يعتبر من الأمور المحدثة؛ التي لم يُقرها صحابة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) خاصة من طالت أعمارهم، وهو ما بدا واضحا في استنكار أنس بن مالك لشاب كان يتلو القرآن بشكل تطريبي، فبادره بالقول «ما كانوا يفعلون هكذا»، كما أوضح أيمن سويد، رئيس المجلس العلمي في الهيئة العالمية لتحفيظ القرآن الكريم بجدة.

إلا أن ذلك لا يُلغي العلاقة بين تلاوة القرآن والمقام؛ باعتبار أن كل قارئ للقرآن سواء كان عالما أم لا، غالبا ما يرتل آيات الكتاب على واحد منها، كما أبان عادل عبد الشكور الداعية والمحاضر في الأزهر «لا نستطيع أن نُنكر على المقرئين وأئمة المساجد القراءة من المقامات، شريطة ألا تخل بمنطق التلاوة؛ ما دامت لا تخالف الأداء القرآني؛ كونها محاطة ومصانة بعلم التجويد».

في حين يأتي اتباع «الضوابط المستمدة من قواعد التجويد، التي تتعلق بمخارج الحروف العربية وصفاتها وأزمنتها» كقاعدة أساسية تقوم عليها التلاوة. فيما تقع قراءة القرآن الكريم بالمقامات الموسيقية ضمن المكروه الذي لا يُعاقب فاعله، إلا في حال «تقديمه للحكم النغمي على الحكم التجويدي عند التعارض»؛ كما أوضح سويد، وهو ما يتضح جليا في التلاوات الخاشعة لأئمة الحرمين الشريفين. فيما يؤكد سويد على أن علم الموسيقى المؤلف من سبعة أحرف، والذي ينقسم لطبقات صوتية منخفضة خشنة، وأخرى مرتفعة حادة، يتعارض استخدامها في التغني بالقرآن مع علم التجويد؛ وهو ما يُحدث التضاد؛ كون كل منهما تحكمه ضوابط خاصة به.

إلا أن إنكار علوم الموسيقى والصوتيات والعروض والصرف، التي هي علوم محدثة ظهرت في العصر العباسي ولم تكن موجودة في عهد الرسول ولا الصحابة «لا يعني عدم الأخذ بها، لخدمة كتاب الله، كونها تقع ضمن العلوم المواكبة لواقع حال المكان والزمان»، كما أبان عبد الشكور، مؤكدا على أن الأخذ بها لخدمة كتاب الله «يعد من الأمور المحمودة وليس فيه حرج».

ويأتي تحديد واستماع الرسول (صلى الله عليه وسلم) لقراء بعينهم من الصحابة «نظرا لحلاوة أصواتهم وجودتها، منهم عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب، وأبو موسى الأشعري؛ الذي قال عنه إنه أوتي مزمارا من مزامير آل داود»، كما أبان عبد الشكور، دعوة لتحسين الصوت عند التلاوة، فيما اعتبر سويد الصوت الحسن «خادما للقرآن» كونه وسيلة «لتحبيب القرآن للنفوس ودعوة لتدبر معانيه؛ خلال ليالي الشهر الذي أنزل فيه».

في حين أن تركيز بعض الأئمة الجدد على التطريب؛ من خلال قراءة مقطع طويل على نفس واحد، اعتبره سويد عيبا يوقع كثيرا منهم في قاع النشاز. إلا أن سعي بعضهم لاستقطاب الجمهور، عبر بوابة التغني، مستندين لحديث «تغنوا بالقرآن.. ليس منا من لم يتغن بالقرآن.. وابكوا فإن لم تقدروا على البكاء فتباكوا»، أوقع كثيرين في فخ التطريب المخالف للتغني المأمورين به، الأمر الذي حمل عبد الشكور على وصف هذا النوع من التلاوة بـ«الترقيع»، مبينا أن «التغني المسف بالقرآن الكريم، مرفوض جملة وتفصيلا، ومن خرج عن علم التجويد يتحمل إثما كبيرا». فيما اعتبر سويد أن تحويل القرآن مادة للتطريب و«أن يصبح خادما والأنغام مخدومة، فهذا يدخل في طور المصيبة؛ التي لا ترضي الله ورسوله (صلى الله عليه وسلم)».

وتأتي إجادة التلاوة على المقام من قبل القراء والأئمة، سواء أكانت بعلم القارئ أو من دونه، ضمن ما أسماه عبد الشكور العلوم التلقينية «تعلم القرآن يكون بالتلقين»، وهو ما يلعب دورا في إجادة بعض القراء التلاوة على مقام واحد؛ في حين تلعب ملكة القارئ وتدبره دورا مهما، يحمله على التنقل بين المقامات الصوتية؛ تبعا للمعاني التي تحملها كل آية قرآنية، مثل تلاوة آيات الخضوع على مقام بيات، فيما يعكس «حضور قلب الإمام أثرا جليا في خشوع المصلين»، كما أبان سويد.

وتأخذ التلاوة على المقام، التي كان أول من قرأ بها قاضي البصرة عبيد الله بن أبي بكرة الثقفي، طرقا متعددة تتفاوت بين قراءة مبسوطة ومركزة على مقام واحد، إلا أن المركزة تعتمد مقاما أساسيا، يمكنها الخروج منه والعودة إليه، في حين تعتمد القراءات التركيبية والمتنوعة أكثر من مقام، وهو أمر لا يُجيده إلا بعض الأئمة أصحاب «القراءة بالطبع والسجية، من دون تكلف» كما وصفهم سويد.

وصفة التلاوة المحمدية ارتقى بها مقام النبوة باعتبار التأني أبرز سماتها. إلا أنها كانت كما وصف عبد الشكور «كان عليه الصلاة والسلام يمد مدا صوتيا، وكان يحرص في تلاوته على أن تكون وفق ما تعلمه من جبريل». ولأن التلاوة لا تخرج عن كونها تحقيقا لقول الله عز وجلّ «ورتل القرآن ترتيلا»، جاءت الكلمات النبوية «ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حَسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به»، لتعكس الحضور الجليل لأئمة المساجد وارتقاء المؤذنين الخاضع لجلال وجمال الليالي الرمضانية.

الضوابط التي تتخذ صفة الحزم، في استخدام المقامات لتلاوة الآيات البينات؛ يبدو أنها تُرخي حبال ضوابطها أمام طول أعناق المآذن، وفق شروط، أهمها عدم الوصول لمرحلة تمييع كلمات الأذان النورانية، كما أبان سويد. ولأن تجلي الله يكون بالجلال والجمال، جاء اعتماد مقام الحجاز للأذان المكي، كناية عن تجليه تعالى بالجلال والهيبة، فيما جاء بيّات الأذان المدني متسقا مع التجلي الجميل له سبحانه في مسجد الحبيب محمد (صلى الله عليه وسلم).