رمضان الطفولة والحرية

مبارك ربيع

TT

تقترن ذكريات رمضان بشغب الطفولة ومرح اليفاعة، وتحل في الفكر والوجدان محلاة بمذاقات البهجة والحنين، مضمخة بهوية ماض بسيط، فواح بكل ما فيه واقعا وأحلاما.

يرتبط لدي تذكر رمضان الطفولة، بمشاعر الحرية التي كنا نستشعرها في هذا الشهر، وكأن جميع السلطات العائلية، وحتى المدرسية، تتحالف لصالحنا في هذا الباب، وكأنها رخصة استثنائية مفروضة، في انتظار منظومة الانضباط المعتادة والملازمة في غير هذا الشهر من عمر طفولتنا على الخصوص.

وتقترن ذكريات رمضان الطفولة بالصيام المبكر، لا لأداء الفرض الركن أو حتى التفكير في الأجر والثواب، رغم ما يمكن أن يترتب من ذلك، بقدر ما هو عامل إثبات الذات أمام الغير من محيط وأقران، وبقدر ما هو محاكاة وإثبات للذات أمام ذاتها أيضا؛ هكذا كنا نسارع الخطو باتجاه المساجد نحتك بالكبار نكاد نزاحم، ثم ما نلبث بعضنا أو كلنا، بتناوب عشوائي فيما بيننا، أن نتخذ بعض أحداث هذه المناسبة موضوعات للتفكه أو الانتقاد، متوقفين عند مشاهد أو مظاهر في الصلاة أو نحوها، من لباس البعض أو حركات بعض آخر، أو مظاهر سلوكية ما، تصبح موضوعا للتندر أو الانتقاد من قبل بعضنا، وسرعان ما تدعو أيضا بعضنا الآخر إلى لبس لبوس الوعظ والإرشاد. إن هذا من جانبنا حرام أو مكروه أو لا يليق بنا، لتلتحم مناقشاتنا من موضوع إلى آخر، يزايد فيها بعضنا متعالما على بعض.. هكذا يحدث بالتناوب بيننا في المواقف والمقالات، مما يجعل منا المتندر المتفكه والواعظ المرشد والعالم الخبير، إلى أن يختطفنا اقتراح ما، سرعان ما نتقافز خلفه.

ولا ننسى لحظات الصيام الباكر، باكر الطفولة وبالذات قبل العاشرة من العمر، وربما بعدها أيضا، لحظات بطعم خاص لا يمكن أن تنسى بما تتيحه من تجربة إيقاع الزمن الرمضاني، الزمن الصيامي، في وقعه على الكيان الصغير المعاند؛ لا ينسى أبدا مذاق الإيقاع البطيء للحظات الثلث الأخير من نهار الصيام، بعد أن يكون الشغب واللهو الطفولي أو حصص مدرسية، قد شغلت نصفه أو يزيد، مستهلكة مختزن طاقة وصبر من طفولة معاندة.. إيقاع صيامي تترى لحظاته متمهلة متثاقلة، يخالطها إحساس بالنبض الحيوي للذات، تستشعره بدوره متثاقلا متباطئا.

أستعيد هذه اللحظات، بل تستعاد من ذاتها مقرونة بهذا الإحساس الذي يجعلك في تجربة حية مع أبدية الزمن في ذاتك، وكأن لا نهاية لنهار الصيام.. حتى إذا هلّ الأذان، حلت معه التهاني وارتسمت ملامح الكبرياء الصغيرة، تتقبل عبارات التشجيع والترحاب من كل صوب، بينما أكثر من تساؤل يخالط تلك الذات الصغيرة، إن كانت ستعاود الكرة غدا أو تقدر عليها.. نعم، قد تستطيع، قد تقدر.

ليالي رمضان أماسيه لم تكن كلها، ولا دائما، تعبدا ولو على سبيل المحاكاة، إنما كانت بالذات فسحة حرية، وكأن هذا الشهر بالذات، لياليه، رخصة تحرر من ضوابط الغير من الأيام والشهور، فما عدا الزمن المدرسي - الدراسي عامة بما فيه الكتاب وما في معناه - ليس هناك من حدود لحركتنا، إلا ما نرسمه طوعا، أو نضطر إلى رسمه كرها لظرف من الظروف، هكذا نتسارع إلى الساحات العشوائية بمحاذاة الأحياء السكنية، حيث تلتئم العديد من ألوان الفرجة الليلية، على أضواء مشاكٍ و(لمبات) بالغاز أو الكربون، يتراقص شعاعها على ملامح الوجوه المحيطة بمركزها الجاذب، يتحلق حوله جلوسا محبو لعبة اللوتو (اليانصيب)، أو آخر أكثر سحرا يتفنن في سرد وقائع الملاحم والغزوات وحكايا العشاق، أو غيره ممن يصدح بصوت وعزف، ينافس فيه المتناهي من «ماكينات الغنا»، من محلات ضيقة متراصة تختص بكراء الأسطوانات وآلات «الفونوغراف»، في زمن بسيط كان خاليا كل الخلو من الشاشات المنزلية الصغيرة، تلك التي لم تكن تراود حتى في الخيال، كما كان من النادر أن تؤثث بيوته بالراديو.. ولعل ذاك ما جعله زمن حريتنا بامتياز، بلا شاغل متعدد متنوع أو عائق، ولا سيما أيام رمضان.

لم يكن ذاك فحسب، فليالي رمضان كانت أكرم في مجال الحرية وأفسح، إذ تتداخل في ليلها عربات العرض في غير انتظام، عند ملتقيات الأزقة والشوارع وعبر ساحات ومرتكنات عديدة، متراصة في مربعاتها مختلف الفواكه والغلال الموسمية، ولا سيما في أشهر الصيف، وهنا يجد مرح الطفولة وشغب اليفاعة مرتعه الخصيب، بل يلقى ما يجدد نشاطه المتآكل نهاية يوم الصيام، وربما يعده بالطاقة ليوم غد.

كنا نتجول بين عروض البضاعات المغرية، ندفع بعض مقابلها من فرنكات ثمينة لدى بعضنا، نتذاوق ونتقاسم ما نصل إليه عن هذا الطريق، مع ما نتناوله جودا من البائعين هدية وإكراما، دون أن ننسى ما نكتسبه بخصوصية مهاراتنا الأخرى المختلفة.

ولعل الأقوى مذاقا في ذكريات رمضان ومنتهى كرمه بإتاحة حريتنا في لياليه، ولا سيما ليالي نهاية الأسبوع المدرسي، عناد السهر ليلا، يضاف إلى تحدي الصيام نهارا؛ حدود مغامرة السهر الطفولية الليلية تتمثل في قدوم «النفار»، انتظار قدومه متجولا على قدميه معلنا ميقات السحور، كنا نتنافس في باب من يصمد ساهرا إلى ذلك الوقت، نمضي الزمن بكل ما يمكن من الشغب واللعب، وكثيرا ما نضطر إلى التحلق أمام منزل ما أو مرتكن، نفترش شيئا أو نقتعد القرفصاء أو كيفما تيسر، نتبادل الحكي ووقائع بطولات وهمية لنا أو لغيرنا، مغالبين سطوة النوم، لدرجة أن منا من يكتم تثاؤبه الفاضح، أو يضطر إلى فتح عينيه بأصابعه، ومنا أحيانا من يأخذه النوم عن إتمام جملة بدأها، أو يجعله ينحرف بها عما لا معنى له، لتستنفر بذلك حمية جمع الأقران المتياقظ، وترتفع أصواتهم ناغزة نابزة هذا «النعّاس» أو ذاك.. أما مفتاح المعضلة الليلية هذه، فكان صوت «النفار» الذي يعلن في ضمائرنا نشيد الانتصار، أننا قد سهرنا إلى السحور.. أي سحور؟ إننا نفترق باتجاه منازلنا، لكن مرور النفار ليس إلا إعلانا بالتهيؤ للسحور أو تهييء مائدته، ومن أين قوة الصبر والاحتمال، في الكيانات المسهدة الصغيرة، لانتظار مزيد من دقائق زمنية، أمام سطوة النوم؛ لذلك غالبا ما يغيب بعضنا في النوم رغما عنه بمجرد ولوج البيت، وبعضنا قد ينام قبل أن تصل يده باللقمة إلى فمه، أو ينام قبل أن يتم مضغها.

هكذا ترتسم بعض لوحات الطفولة الرمضانية لزمن بسيط بسيط، أقوى ما يؤثثه فوح الشعور بالذات، وفسحة الحرية المتاحة.

* كاتب وروائي مغربي