«المسحراتي» ما زال يتجوّل في صيدا التي تعتبره من رموز تراثها القديم

مهنة تتطلّب من صاحبها اللياقة البدنية وإجادة إلقاء القصائد الخاصة بالشهر الفضيل

المسحراتي عباس قطيش مهنته أيضا في الاستراحات الموزّعة على شاطىء صيدا
TT

لا تزال مهنة «المسحراتي» لها مكانتها الكبيرة في المدن والبلدات اللبنانية المتشبثة بطقوس وتقاليد شهر رمضان. فصاحب هذه المهنة يأخذ على عاتقه القيام بجولات مكوكية في الأحياء طيلة شهر رمضان من كل عام، ما زال يجذب اللبنانيين المتعلقين بعادات ترعرعوا عليها في صغرهم. أما المعاني التي تحملها لهم جولات المسحراتي فهي كثيرة كونها تشعرهم بالطمأنينة وتعيدهم إلى الأيام الخوالي من ناحية، وتزوّدهم ببركة الشهر الفضيل التي تحلّ عليهم من خلالها من ناحية أخرى.

في بيروت أصبح وجود المسحراتي قليلا وأحيانا كثيرة نادرا، وإذا ما صودف وسمعت عن أحدهم ما زال موجوداً في زوايا شوارع بربور أو المصيطبة أو رأس النبع، فسترى أنه يواكب الحقبة الحديثة التي نعيشها، إن من حيث لباسه الأفرنجي أو من حيث أسلوبه في ممارسة عمله، والتي تعتمد بصورة كبيرة على تسجيلات صوتية أو رسائل إلكترونية تستخدم بواسطة الهاتف المحمول في هذا الإطار، بدلا من مقاربته وبصوته الشخصي البيوت والحارات.

في مدينة صيدا الجنوبية يختلف الأمر تماما عمّا يجري في العاصمة. فهناك المسحراتي بقي محافظا على لباسه التراثي (القمباز والطربوش)، وعلى قصائده التي يسبّح بها ربّ العالمين من أجل أن يصحي السكان ليتناولوا السحور وينزلوا الجامع للصلاة وكلّ ذلك قبل الإمساك.

ويعدّ ابن صيدا عباس قطيش (52 عاما) «مسحراتي» بامتياز، إذ يأبى أن يستعين بأي مظهر من مظاهر الحداثة خلال ممارسته مهنته هذه التي يصفها بالرسالة. فهو يسير يوميا عشرات الكيلومترات بسعادة لا توصف كما يقول، كما أنه لا يملّ من الوقوف أمام هذا المنزل أو ذاك في حارات صيدا القديمة ليلمح إنارة أضوائها، فيعرف أن الصائم صاحب البيت استيقظ من النوم ولبّى نداءه لتناول السحور ولأداء الصلاة.

ويقول عباس قطيش في حديث لـ«الشرق الأوسط» إنه ومنذ صغره جذبه صوت المسحراتي الذي كان يجول في أزقة صيدا القديمة، فراح يتبعه ويلحق به حتى حفظ أسلوبه في العمل وكذلك كلام القصائد التي يتلوها. ويتابع: «لقد سجلتها جميعها بالصوت فصرت أرددها في المنزل إلى أن حفظتها، كما أنني صنعت طبلة من الجلد على قاعدة نحاسية أضربها بسوط صغير أو بيدي، فترافقني دقّاتها في جولاتي التي تستغرق نحو الساعتين والنصف». ويرى عباس قطيش أن هذه المهنة لن تندثر في مدينة صيدا كون هناك أيضا حاليا أطفالا يلحقون به ويتعلّمون طريقته في العمل مثلما كان يفعل تماما.

ويضيف: «إنني أمر على جميع حارات صيدا القديمة التي يبلغ عددها نحو الخمسين، وأقف أمام كل مبنى فيه أنادي الصائمين للنهوض وتناول السحور، فهذه الوجبة ضرورية لهم، ونحن نردد عبارة في هذا الصدد نقول فيها (عجّل بالفطور وأخّر في السحور)، الذي يبقى تناوله ساري المفعول حتى يلمع أول خيط أبيض من الفجر في سواد الليل».

الجميع يعرف عباس قطيش في صيدا القديمة فهو تسلم مهمتّه فيها منذ عشرين عاما، فيما اختار المسحراتي الأقدم محمد سناس أن يتركها ليمارس مهنته في صيدا الجديدة.

كثيرة هي الحارات التي يتعّرف سكانها بسرعة إلى صوت عباس قطيش في صيدا القديمة. «حي الزيتونية» و«حي الكشك» و«حي زقزوق حمّص» و«حي الجامع الكبير» و«حي ضهر المير» وغيرها التي يبدأ المسحراتي جولته فيها منذ الواحدة بعد منتصف الليل، فيدّق على الطبلة دقّات خفيفة وهو يردد العبارة الشهيرة (يا نايم وحّد الدايم)، وتصبح أسرع بمثابة ثلاث دقّات في الثانية الواحدة عندما ينوي تلاوة قصيدة أو تسبيح وابتهال ما. «صلّوا على من خلقه ربّ الهدى.. جبريل نزل سماه.. مكتوب على جبهته محمد رسول الله.. سبحانه وتعالى وحّدوا الدايم اصحى يا نايم وحدّوا الدايم، وحّدوا الله وقوموا على السحور، يا مؤمنين وحّدوا الله، يا صائمين وحّدوا الله قوموا إلى قائمة الله رمضان كريم». بهذه الكلمات المغناة على طريقته أراد المسحراتي أن يعرّفنا على نوعية القصائد التي يتلوها وقال: «بعض الناس يستعينون بمنبّه الساعة ليقوموا على سحورهم، فهؤلاء نومهم عميق ويخافون أن تفوتهم طبلتي، وبعضهم يعيّر ساعته قبيل موعد مروري ليكون أولاده مستعدين وحاضرين للحاق بي واكتساب المهنة عن كثب».

ولكن ماذا تغيّر بين الماضي واليوم في هذه المهنة؟ يردّ عباس قطيش الذي يعمل في مجال الخدمات العامة في باقي أشهر السنة: «أشياء كثيرة تغيّرت، فهناك مسحراتيين يستعينون بالـ(سي دي) بدل الترنيم بأصواتهم، وهناك آخرون خلعوا القمباز والطربوش وما عادوا يولون هذه المهنة التقدير اللازم لها، حتى إن العيدية التي أكافأ بها من قبل سكان الحارات تغيرت، إذ كانت في الماضي تتراوح ما بين 250 و500 ليرة، بينما اليوم ارتفعت بأضعاف إذا أراد الصائم أن يُخرج الزكاة».

ويمارس المسحراتي عباس قطيش مهنته أيضا في الاستراحات الموزّعة على شاطئ صيدا وفي حواريها ويقول في هذا الصدد: «هم يستعينون بي في هذه الأماكن من أجل الابتهال إلى ربّ العالمين في هذا الشهر الفضيل، فآخذ أنا بتلاوتها وهم يرددونها معي».

أما الصفات التي يجب أن يتمتع بها المسحراتي حسب عباس قطيش، فهي اللياقة البدنية والصحة الجيدة، إذ عليه أن يسير يوميا مسافات طويلة، وكذلك الصوت القوي والنفس الطويل إضافة إلى معرفته بتلاوة القصائد الخاصة بالمناسبة. فالمطلوب منه عدم التوقف عن الكلام والتنبيه والابتهال إلى الله طيلة فترة جولاته على النائمين.