مفتي مصر: رمضان لعب دورا مؤثرا في تشكيل وجداني وتكويني الثقافي لكن الناس مشغولون بالمظاهر الاستهلاكية

علي جمعة يسجل لـ «الشرق الأوسط» شهادته على المسلمين في الشهر الكريم

د. علي جمعة مفتي الديار المصرية («الشرق الأوسط»)
TT

رمضان شهر للعبادة.. ولكل عبادة في الإسلام حكمة.. وحكمة الصوم هي التقرب من الله ومن الإنسان في آن واحد.. وصوم رمضان والإكثار من الصلاة والزكاة والتواصل والتراحم والتعاون والبر والإحسان وصلة الرحم.. كل هذا يحقق معادلة التقرب إلى الله والإنسان.

«الشرق الأوسط» التقت الدكتور علي جمعة مفتي مصر في مكتبه بدار الإفتاء، ودار هذا الحديث عن شهر رمضان وعادات المسلمين في ذلك الشهر الكريم.. وسجل الدكتور جمعة لـ«الشرق الأوسط» ملاحظاته على التغير في عادات الناس.. وكذلك نصائحه للمسلمين.. وتحدث مفتي مصر أيضا عن الأزهر كمرجعية دينية للمسلمين في العالم وعن كثير من القضايا التي تهم المسلمين.. كما تطرق إلى ذكرياته في رمضان، مستعرضا العديد من المحطات الرمضانية التي توقف عندها.. وفي مقدمتها رحلاته الدعوية خارج مصر.. وتناول أيضا الدور الذي لعبه شهر رمضان في تكوينه الثقافي.. لكن الدكتور على جمعة بادرنا بانتقاد شديد لانشغال كثير من المسلمين بالمظاهر الاستهلاكية التي استحوذت على جانب كبير من اهتمامهم أثناء شهر رمضان.. وفيما يلي نص الحديث الذي فضل فيه الدكتور جمعة أن يبدأه بتناول مسألة انشغال المسلمين بالمظاهر الاستهلاكية في رمضان، قائلا: إن كثيرا من المسلمين للأسف لا يفهمون الحكمة من العبادات في الإسلام، وخاصة الصيام، وبالتالي فهم يركزون على الشكليات وليس على جوهر الأشياء وتصير هذه العبادات غير مؤثرة أو ذات قيمة في حياة الإنسان، فلو فهمنا المقصد والهدف الحقيقي للصيام وهو تحقيق التقوى لقول الله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون»، لاستقامت الأمور كلها، ولما اهتم كثير من المسلمين بإضفاء كثير من العادات والمظاهر الاستهلاكية وتعدد الأنماط الاستهلاكية على شهر رمضان.

* ما هي أهم المحطات الرمضانية في حياتك؟

ـ كنت وأنا صغير أتطلع بشغف شديد مثل بقية الأطفال لاستقبال الشهر الكريم بالفرح وكنت أحرص على الذهاب مع والدي لأداء صلاة التراويح بالمسجد، كما كانت هناك عادات وتقاليد كثيرة في مصر يستقبل الناس بها شهر رمضان، لكن الكثير منها تلاشى وبعضها الآخر اندثر، ولم يعد له وجود، فمن العادات الحميدة التي لا تزال تمارسها الأسر طيلة شهر رمضان المبارك ـ خاصة في الريف المصري ـ وتعتبر من أول مظاهر استقباله تبادل الأطعمة؛ حيث تحرص كل أسرة على إرسال بعض الأطعمة للجيران والأهل والأصدقاء، حتى لو كانوا غير محتاجين. لذلك كان شهر رمضان مناسبة عظيمة لتحسين العلاقات بين الناس وصلة الأرحام وفرصة للصلح بين العائلات المتخاصمة.

* حدثنا عن رحلاتك الدعوية التي قمت بها خلال رمضان والدور الذي لعبه الشهر الكريم في تكوينك الثقافي والوجداني؟

ـ من الأشياء التي حين أتذكرها في رمضان أسعد بها كثيرا هي رحلاتي أثناء شهر رمضان لأداء العمرة وكذلك رحلاتي الدعوية إلى بعض الدول الغربية، خاصة إلى بريطانيا، وكذلك رحلاتي إلى بعض الدول العربية مثل المغرب عندما دعيت من قبل الملك الحسن الثاني رحمه الله تعالى قبل أن أكون مفتيا لإلقاء بعض الدروس الحسينية، وكذلك سافرت كداعية في رمضان إلى عدة دول عربية منها سورية والكويت وغيرها، لكنني ما وجدت أمتع ولا أفضل من جو رمضان في مصر، فرمضان في منطقة الأزهر والحسين له عبق التاريخ وسيظل محفورا في الذاكرة خاصة أنني تعودت أن أعيش رمضان في جو روحاني في الجامع الأزهر، حيث إنني كنت أقوم بأداء صلاة التراويح وأستمع إلى دروس العلم وحلقات الذكر والدعاء ومعارض الكتب التي كانت تقام بمناسبة شهر رمضان، وأتمنى أن يعود الزمن إلى الوراء، لأعيش شهر رمضان كما كنت أعيشه في السابق.. لقد كان لشهر رمضان حلاوة وبركة نفتقدها هذه الأيام نظرا لزحف المدنية الحديثة وانشغال الناس بأمور الحياة وازدحامها، فقبل ظهور التلفزيون كان شهر رمضان ممتلئا بالروحانية العالية وانصراف الناس إلى العبادة، وبعد ظهور التلفزيون كان رمضان يتميز من ناحية الاتصال الإعلامي بالفوازير مثل فوازير ألف ليلة وليلة، وكان هناك برامج جميلة كنت أحبها في التلفزيون المصري مثل برنامج «أحسن القصص» وهذا البرنامج كان يتناول قصص الأنبياء، وكانت كتابات عبد الحميد جودة السحار، ورشيد كيلاني تثري الحياة الثقافية خاصة في الجانب الذي يختص بقصص الأنبياء، وكانت الحياة الثقافية خارج المدرسة والأسرة تعكس هذه المعاني وكنا من خلال قراءاتنا وسماعنا لقصص الأنبياء نعلم تاريخنا، وهذا معنى مهم جدا لأنني أرى جيل الشباب وكأنه لم يعلم شيئا عن سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

* ودور الأزهر في حياة المسلمين كمرجعية دينية لهم؟

ـ إن القران الكريم والسنة النبوية هما أساس المرجعية والاحتكام عند المسلمين، وحيث إنه لا يستقل المسلم العادي بالفهم الدقيق لمعاني القرآن الكريم والسنة النبوية، لما يتطلب من دراسة علوم أخرى كعلوم اللغة من نحو وصرف وبلاغة وعلوم القرآن وعلوم الشريعة وعلوم التوحيد، فإن علماء المسلمين في كل عصر هم نقلة الدين وهم من يوقعون باسم الدين من خلال النقل الأمين للشرع، وحيث إن الأزهر أقدم مؤسسة علمية تعلم الدين وتنشر الدعوة الإسلامية ويضم أعدادا كبيرة من العلماء فإنه يعد من أهم المرجعيات بما يشتمل عليه من مؤسسات علمية تجمع كلمة المسلمين، كمجمع البحوث الإسلامية التابع للأزهر ويرأسه الإمام الأكبر الدكتور محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر، ويعتبر شيخ الأزهر من أكبر المرجعيات الدينية في العالم الإسلامي، وكذلك المفتون في البلاد الإسلامية والمجامع الفقهية كمجمع الفقه الإسلامي بجدة، فالمرجعية للكتاب والسنة ثم علماء الأمة ثم تلك المجامع المذكورة، وذلك بالنسبة للعصر الحديث الذي نحن فيه.

* كيف ينظر مفتي مصر إلى حالة الجدل التي تثيرها بعض الفتاوى التي تصدر عن دار الإفتاء المصرية، وعن المنهجية التي تعتمد عليها دار الإفتاء في إصدار هذه الفتاوى؟

ـ منهجنا في الإفتاء هو أننا ملتزمون بالمصادر الإسلامية التي تتمثل في القرآن والسنة بالإضافة إلى النتاج الفكري الفقهي لعلماء المسلمين عبر القرون وتفهمنا لها من خلال علم أصول الفقه واللغة العربية وإجماع الأمة والعمل على تحقيق المقاصد الشرعية.. وهذا يجعلنا ننظر إلى هذه المصادر بعين وإلى الواقع بعين أخرى.. فنحن نزاوج بين التراث والمعاصرة أو بين هويتنا الإسلامية وبين مصالحنا وحياتنا العصرية.. فنحن نتعامل مع واقع مركب.. وهذا التركيب من عوامل مختلفة.. عالم الأشياء وله منهج للإدراك وهو المنهج العلمي والعلم التجريبي، ثم عالم الأشخاص، وعالم الأفكار وعالم النظم وعالم الأحداث. ولكل عالم منهج في التحليل وفي الاستفادة وفي التعامل معه، لأن إدراك الواقع منذ مائة عام مضت كان ميسرا ولم تكن الدنيا بهذا الحراك السريع الذي نحن فيه، لذلك أصبحت عندنا دوائر متعددة يجب أن نحدث التوازن فيما بينها؛ أولها دائرة الخبر.. ثم دائرة العمل المتصل بحياة الناس ومصالحهم.. ثم علاقتنا بأنفسنا ومع الآخر بالنظم التي ينبغي أن تشيع فينا حتى ننهي الظلم ونقر العدل.. وحتى نقاوم البطالة ونهتم بشؤوننا الاجتماعية وبشؤون حياتنا في الآداب والفنون والبحث العلمي.. فنحن معنا دائرتان هما دائرة الخبر ولنا فيه مناهج علمية ندرك بها كيفية توثيق الخبر وما يترتب عليه، والثانية هي الفرق بين المسألة وبين القضية، والفرق بين العقيدة وبين الأعمال، والإجراءات التي ينبغي أن نقوم بها لعمارة الدنيا وتزكية النفس. وغرضنا من ذلك كله هو بيان صحيح الدين لأولادنا ومن هم معنا، وأن ننقل صحيح الدين بصورة لافتة للنظر لمن هم بعدنا، وأن نصحح صورة الإسلام والمسلمين بمشارق الأرض ومغاربها عند الآخر، وننقل صحيح الدين لغير المسلمين من مختلف بقاع العالم. والأمر الثالث هو القضاء على بذور الشر التي نبتت هنا أو هناك، وما ينتج عنها من مشرب التشدد وسحب الماضي على الحاضر نوع من أنواع التطرف، ويتطور هذا النوع من التطرف إلى نوع من أنواع الإرهاب ولذا يجب أن تكون غايتنا جميعا هي محاصرة هذه الأمور والقضاء عليها بالفكر والتربية وبالإعلام، والتعامل السوي مع هذه الأفكار المتشددة، والأفكار المتطرفة، والأفكار الإرهابية بعد ذلك في تطورها الطبيعي من بذرة إلى شجرة إلى ثمرة في هذا المجال.