المكظومون في انتظار لطف الله

TT

هذا الخطيبُ المِصْقعُ لا يلتوي لسانُه إذا تراكضتِ الألفاظُ في ميدانِ البيانِ، بل يمضي ساطعا صارما متدفِّقا.

هو خطيبُ الرسول صلى الله عليه وسلم وحسْبُ، وخطيب الإسلام وكفى، كان يرفع صوته بالخطبِ بين يدي رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم لنصرةِ الدِّين، إنه ثابتُ بنُ قيسِ بن شمّاس، فلما أنزل اللهُ : «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ» ظنَّ قيسٌ أنه هو المقصود، فاعتزل الناس واختبأ في بيتِه يبكي، وفقده رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فسأل عنه، فأخبره الصحابةُ الخَبَرَ، فقال:

* «كلاَّ، بل هو من أهلِ الجنة». - فصارتِ النذارةُ بشارة.

* هناءٌ محا ذاك العزاء المقدَّما - فما جزِع المحزونُ حتى تبسَّما

* وتبقى عائشةُ أمُّ المؤمنين ـ رضي اللهُ عنها ـ تبكي شهرا كاملا ليلا ونهارا، حتى كاد البكاء يمزِّقُ كبِدها ويفري جسمها؛ لأنها طُعنتْ في عِرْضها الشريفِ العفيفِ، فجاء الفرج: «إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ». وحمدتِ الله وصارتْ أطهر الطُّهرِ، كما كانتْ، وفرح المؤمنون بهذا الفتحِ المبينِ.

والثَّلاثةُ الذين تخلَّفوا عن غزوةِ تبوك، وضاقْتْ عليهمْ الأرضُ بما رحُبتْ، وضاقتْ عليهم أنفسُهم، وظنُّوا أن لا ملجأ من اللهِ إلا إليه، أتاهم الفرجُ ممنْ يملكُه ـ سبحانه ـ ونزل عليهم الغوْثُ من السميعِ القريبِ «سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً».

وهذا وعد من أصدق القائلين، وهي بشري لعباده المؤمنين، أن سنته الماضية وحكمته القاضية، بأن العسر بعده يسر، فلا يضيق الأمر ويشتد الكرب إلا ويتبعه يسر، فبشر كل مكروب ومنكوب بفجر صادق من الفرج يصادر فلول الشدائد.

وما أحسن هذه الآية سلوة للمعذبين بسياط الظالمين، وعزاء للمصابين، وبشرى لأهل البلاء، وهذه الآية هدية غالية لمن طرح في السجن، وغُلّت يداه، وكبلت رجلاه، ليعلم أن فرجه قريب، وخروجه وشيك إلى عالم الحرية والانطلاق، وهي تحفة ثمينة لمن أقعده المرض، وأضناه البلاء، أنه موعود بشفاء عاجل، وعافية قادمة، فبعد الجوع شبع، وإثر التعب راحة، وعقب السقم شفاء، وخاتمة الشدة رخاء، ونهاية الفقر غنى.

فاغسل همومك بنهر التوكل، «وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ»، واحذر من تصديق وعد الأفاك الأثيم والشيطان الرجيم؛ لأنه يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء، ولكن صدق موعد أصدق القائلين: «وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ».