شهر القرآن (23) (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى)

د. عائض القرني

TT

لا تمدحوا أنفسكم فعلمها عند اللطيف الخبير، ولا تثنوا عليها فإن الناقد بصير، وما أجهل الإنسان إذا زكى نفسه وشهد لها بالفضائل وبرّأها من الرذائل! وما أثقل كلامه وهو يستعرض على ربه وعلى الناس مناقبه ويسوق محامده ويذكر حسناته! إن الذي يزكي نفسه يكون في محل التهمة وفي مقام الريبة؛ لأن الإنسان بطبعه ظلوم جهول، يحب نفسه ويعشق ذاته، ويعجب بصفاته، فإذا نما هذا الطبع وأعلنه في الناس كان دليلا على قلة تقواه وضحالة معرفته، وأي شيء عند الإنسان حتى يزكي نفسه وهو بين نعمة لم تُشكر، أو ذنب لم يُغفر، أو عثرة لم تظهر، أو زلة من ربه تُستر؟

أفلا يكفيه أن الذي خلقه وصوّره وشقّ سمعه وبصره قبِل منه القليل، وغفر له الذنب الجليل، وأصلح خلله وستر زللـه؟ ثم يأتي هذا الإنسان بدعـــــاوى عريضة ونفس مريضة ليخبر ربه الذي يعـــــلم السر وأخفى أنه ذو تقوى، والله أعلم بمن اتقى، فهو الذي لا تخفى عليه خافية.

وإن منطق الزور ولسان البهتان أوحى إلى إبليس اللعين بتزكية نفسه الشريرة ليقول لربه: (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) لتكون هذه التزكية لعنة ماحقة وضربة ساحقة لهذا المريد العنيد، وإن الشهادة الآثمة للنفس سولت لفرعون الطاغية ليقول: (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ) فأذله القوي العزيز، وأرغم أنفه في الطين.

وإن التزكية المفتراة دفعت بقارون الآثم ليتفوه بفرية: (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي). ألا فليصمت العبد الضعيف الهزيل، وليسكت المخلوق الفقير، وليخجل العبد المسكين من ربه، وليهضم نفسه، فلولا ستر الله لظهرت الفضائح، ولولا لطف الله لبدت القبائح، وإن من يتصدر النوادي ليخبر الناس بنسبه الأصيل لهو فاشل، ومن يحدثهم عن مجده الرفيع لهو أحمق، ومن يزكي لهم تقواه لهو مخدوع، ومن يذكرهم بمناقبه لهو مخذول.

لماذا لا يترك العبد تزكية نفسه لربه، فهو الذي يزكي من يشاء وقوله الحق؟‍! ولماذا لا يدع الإنسان أعماله تتحدث عنه لا أقواله، وإحسانه لا لسانه؟ وسوف يظهر زيف من مدح نفسه بالباطل، فالناس شهداء الله في الأرض، وألسنة الخلق أقلام الحق، وإن عبدا خلق من نطفة لجدير بأن يصمت، وإن مخلوقا يحمل فضلاته لحقيق أن يسكت، ونعوذ بالله من لسان حي بالمديح، وقلب ميت بالقبيح، ومن عجب ظاهر، وذنب خفي.

فيا من أخفيت على الناس العيوب، وسترت عن العيون الذنوب، نسألك صلاح القلوب فإنك علام الغيوب.