المسحراتي اللبناني.. حضور «فلكلوري» لمهمة فقدت وظيفتها

من الطبلة والخيزران إلى الدراجة النارية والفرق الكشفية

المسحراتي اللبناني، الحاج عبد الرحمن الألطي، متنقلا بين الأحياء البيروتية في الليالي الرمضانية (تصوير: نبيل إسماعيل)
TT

تتطور الأيام وتتغير العادات ويبقى لـ«المسحراتي» في لبنان وقعه الذي لا يمحى من الذاكرة. هو بالنسبة إلى كبار السن صورة تقليدية جميلة تجسد هذا الشهر الفضيل بطقوسه القديمة «الخيرة»، بينما قد يراه بعض الشباب، ولا سيما الجيل الجديد، أنه لا يعدو كونه «فلكلورا» فقد وظيفته في ظل سيطرة التكنولوجيا واستعمال أحدث آلاتها للاستيقاظ على موعد السحور، مبدين انزعاجهم منه ومن صوت طبلته.

وفي حين لا تزال بعض المناطق اللبنانية محافظة على هذا التراث الذي ورثه معظم «المسحراتيين» عن آبائهم أو عن أجدادهم، انتشرت في السنوات الأخيرة في لبنان ظاهرة «التقليد المتطور» لدور «المسحراتي الذي تحول في مناطق عدة إلى (وظيفة من لا وظيفة له)» في الليالي الرمضانية الصيفية، وصار شباب المنطقة الواحدة يتناوبون على القيام بهذا الدور متنقلين على الدراجات النارية من حي إلى آخر مرددين بعض العبارات المعروفة لإيقاظ الناس، ولا سيما أسماء أصدقائهم. أما في مناطق أخرى كالضاحية الجنوبية في بيروت، فاتخذ هذا التقليد طابعا متطورا أيضا، ولكنه منظم، فتقوم بعض الفرق الكشفية وقبل أذان الإمساك بسويعات قليلة بالتنقل في الشوارع لدعوة الصائمين إلى التسحر على وقع المدائح الدينية الرمضانية.

الحاج عبد الرحمن الألطي، هو واحد من «المسحراتيين» اللبنانيين الذين لا يزالون يزاولون هذه المهنة متمسكين بتفاصيل طقوسها منذ ما يزيد على 60 عاما من دون كلل أو ملل في منطقة طريق الجديدة البيروتية. يروي الحاج الألطي سيرة مهنته التي ورثها هو وشقيقه عن والدهما منتقدا الأساليب التي يلجأ إليها شباب اليوم، رافضا تسليم الراية إلا لمن يستحقها، ويقول لـ«الشرق الأوسط»: «بدأت أخرج مع والدي لإيقاظ الناس للسحور حين كان سني 10 سنوات، وبعد سنتين تقريبا بعدما تأكد من امتلاكي سر هذه المهنة سمح لي أبي بتولي المسؤولية في حي صغير في بادئ الأمر، إلى أن صرنا نتقاسم الأحياء بالتساوي، وعندما كبر أخي حرصت أيضا على تعليمه المهنة ويتولى اليوم المهمة في جزء من أحياء المنطقة. وكي أحافظ على تاريخ عائلتنا الذي ارتبط بـ«المسحراتي»، ها أنا اليوم أتابع ابن أخي الذي يبلغ من العمر 10 سنوات ويبدي حماسة كبيرة للتعلم ليرث عنا المهنة فيما بعد».

للحاج الألطي ذكريات بل وتاريخ مع عصا الخيزران والطبلة الفخارية التي يحرص على صناعتها بأنامله ويشدها بجلد الماعز ليجوب بهما بين أزقة طريق الجديدة وأحيائها ويوقظ بها أبناء منطقته الذين اعتادوا على صوته ومدائحه التي لم تعد رائجة كثيرا في أوساط «المسحراتيين» في أيامنا هذه، ويقول: «لم أتوقف عن القيام بواجبي لا في أيام الحرب ولا في فصل الشتاء القارس، كنت أتنقل من حي إلى آخر تحت الأمطار الغزيرة والعواصف، وحتى تحت القذائف والرصاص في أيام الحرب. أخرج من البيت الساعة الواحدة صباحا وأعود بعد نحو ساعتين من التنقل سيرا على قدمي بين الأحياء التي كانت وعرة وتنتشر فيها الحيوانات المفترسة ليلا».

رغم اعترافه بأن الناس لم تعد في حاجة إلى طبلة المسحراتي لتستيقظ للسحور، يقول: «المسحراتي رمز وتاريخ، علينا أن نحافظ عليه كي لا يندثر. هناك بعض الأشخاص لا يزالون يفضلون الاستيقاظ على وقع طبلتي ومدائحي، حتى إنهم يطلبون مني إيقاظهم شخصيا».

وعن أيام الماضي يقول: «كان إشعال النور في البيوت هو الإشارة التي تنبئ المسحراتي بأن أصحاب البيت قد استيقظوا ليكمل طريقه وينتقل إلى منزل آخر. حتى إن بعضهم كان ولا يزال يدعوني إلى مائدته ويقدم لي ما تيسر عنده من طعام السحور». ويضيف: «أما اليوم فأكثر ما يفرحني هو رؤية الأطفال الصغار الذين يطلون من الشرفات لإلقاء التحية علي والحصول على صورة معي عندما يشعرون بقدومي». ولأن صوت الطبلة ليس الوسيلة الوحيدة التي توقظ الصائمين فإن لمدائح الحاج الألطي التي تصدح في الليالي الرمضانية الوقع الأقوى على مسمعهم، فهو لا يكتفي بتلك المألوفة والمعتمدة لدى معظم «المسحراتيين»، بل إن ذاكرته لا تزال تزخر بتلك التي حفظها عن ظهر قلب وهو طفل لم يتجاوز الـ10 سنوات، ومنها «لما توفي النبي قالوا الدوام لله، حزنت ملوك السماء والعرش يوم اللي مات، قامت ستنا فاطمة وقالت آه يا بيان والصالحين يا بني نشروا لك الرايات..»، و«امدح نبيك كل من صلى عليه زاده، تقوى وإيمان فرق على يد زادوا..». ولا ينسى أيضا مناداة أصدقائه مستخدما بعض العبارات المشهورة، مثل «يا فلان وحد الله، أو سبح الله.. ويا نايمين اذكروا الله..»، إضافة إلى «يا نايم وحد الدايم.. وقوموا على سحوركم جاي رمضان يزوركم».

وفي حين يعتبر الألطي أن زي «الشروال» و«الطربوش» الذي كان يرتديه والده في أداء مهمته والذي صار فيما بعد عباءة، لم يعد ساري المفعول في أيامنا هذه ويستعيض عنه بـ«السروال» والثياب اليومية، يقول: «لكن تبقى الاحتفالات في شهر رمضان وقعها في إظهار الصورة التقليدية لهذه المهنة، وبالتالي لا أزال أحرص على ارتداء العباءة أثناء ظهوري في هذه المناسبات كي لا تفقد صورة المسحراتي التقليدية رونقها».

أما عيدية المسحراتي فهي لا تزال حاضرة ضمن طقوس هذه المهنة، ويقول عنها الألطي: «قبل نحو يومين من انتهاء الشهر الفضيل وخلال عيد الفطر المبارك، أقوم بجولة على المنازل في الأحياء التي كنت أوقظ فيها الصائمين وأطلب منهم (العيدية) التي هي عبارة عن مبلغ من المال يقدمه لي هؤلاء في ليلة العيد، مع العلم أن عددا قليلا منهم يرفض إعطاء المال بحجة أنه لا يصوم». ويعتبر الألطي أن من يبدي انزعاجه من «المسحراتي» هو الذي لا يصوم ولا يقدر أهمية هذا العمل الذي «نقوم به طمعا في الثواب من الله سبحانه وتعالى، وليس المال».