شهر القرآن (25) (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه)

د. عائض القرني

TT

أخبر الله عن أوليائه الصادقين، وعباده الصالحين، بأنه يحبهم ويحبونه، وهو خبر تهش له نفس المؤمن، ويشتاق إليه قلب الولي، والعجيب قوله: (يحبهم) فهو الذي خلقهم وأطعمهم وسقاهم وكفاهم وآواهم، ثم أحبهم، وهو الذي رباهم وهداهم وعلمهم وألهمهم وأرشدهم، ثم أحبهم، وهو الذي أنزل عليهم الكتاب، وأرسل إليهم الرسل، وبين لهم المحجة، وأوضح لهم الحجة، ثم أحبهم، فيا له من فضل عظيم، ويا له من عطاء جسيم.

أما قوله عنهم: (يُحِبُّونَه) فهذا عجيب أيضا، فكيف لا يحبونه وقد أوجدهم من العدم، وأطعمهم من جوع، وآمنهم من خوف، وكساهم من عري؟

كيف لا يحبونه وهو الذي وهب لهم الأسماع والأبصار، وحماهم من الأخطار، وحفظهم في سائر الأقطار؟

وكيف لا يحبونه وهو الذي وهبهم الأموال والأولاد، وأغدق عليهم الأرزاق، وساق إليهم كل ما يطلبونه، ومنحهم كل ما يسألونه، وأمّنهم من كل ما يخافونه؟

كيف لا يحبونه وقد سخر لهم ما في البر والبحر؟ أرسل لهم السماء بالماء، وشق لهم الأرض بالنبات، وجعل الأرض بهم فراشا وذلولا ومهادا، والسماء بناء، ورزقهم من الطيبات، وأصناف الثمرات، ومختلف المطعومات، وسائر المشروبات؟

كيف لا يحبونه وهو الذي أنزل عليهم القرآن، وعلمهم البيان، وهداهم إلى الإيمان، وحذرهم من كيد الشيطان؟

وما أجمل المقابلة بين قوله: (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه) فهو حب بحب أزكى من حب الرب، فليت من له مقام في دنيا المحبين أن يتذوق هذه اللفظة المشرقة، وأن ينقلها رسالة قوية لعشاق الفن محبي العيون السود، والخدود والقدود؛ ليعلموا أن حبهم منقوص هابط، وحياتهم ذاوية ذابلة، وقلوبهم خاوية خربة، ونفوسهم ظالمة ظامئة، وبصائرهم كسيفة كليلة، أما حب أولياء الله فهو الحب الصادق الصائب الطيب الطاهر الزكي النافع.

والله إن من أجلّ مطالب القوي السوي وصوله إلى رتبة (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه).

وإن من أعظم العطايا وأشرف المواهب لهي عطية وموهبة: يحبهم ويحبونه، كل حب غير حب الله مقطوع، وكل عمل لغير الله ضائع، كل السعي لغير مرضاته باطل، كل تعب في غير مرضاته عناء:

سهر العيون لغير وجهك ضائع ورضا النفوس بغير حبك باطل فيا من خلق خلقا ثم رزقهم ثم هداهم ثم أحبهم، أسألك أن تجعلنا من أحبابك، وخالص عبادك، وصالح أوليائك؛ فإنك أهل للإجابة، معروف بالإحسان، مقصود لكل مطلوب.